الإسلام في أفريقية الحلقة الثامنة، عهد الولاة
لقد عرفنا أن عصر الفتوح كان عصر الصراع بين المسلمين من جهة والروم والبربر من جهة أخرى لإدخال المغرب وأهله في بوتقة الإسلام، وبالفعل تمكن الفاتحون من دحر الروم وهزيمة البربر الذين لم يكد ينتهي عهد الفتوح حتى غدو جزءا من حملة هذا الدين والمنافحين عن السنة والجماعة أو الآخذين بمذهب الخوارج المتمردين على الدولة الإسلامية في دمشق ثم في بغداد، وبذلك كان البربر جزءا من الصراع بين ذينك الاتجاهين. وقد تميز عهد الولاة في المغرب بالصراعات المريرة والتصادمات الدموية، ولم ينته الصراع بنهاية عصر الولاة، ولكن المواقف فيه تحددت والاتجاهات خلاله وضحت، فبدأ عهد قيام الدول واستقلالها عمليا عن عاصمة الخلافة الإسلامية في بغداد، رغم تمسك تلك الدول بالارتباط بالخلافة ببغداد والدوران في فلك سياستها والاجتهاد في إرضاء المتقلبين على مناصبها والمتنفذين فيها والفوز بكتب تقليد الإمارة الممهورة بخاتم الخليفة.
وبانتهاء ولاية موسى بن نصير تنتهي - كما نوهنا - فترة فتوح المغرب، ويبدأ عصر الولاة، بعد أن أصبح المغرب ولاية إسلامية، حيث بدأ العرب تجربة الحكم فيه، وهي تجربة مريرة وشاقة حافلة بالصعاب والمشاكل، فالعرب بطبعهم وحياة البداوة التي ألفوها لم تكن لهم أية تجربة في الحكم، وخاصة حكم شعوب غريبة عنهم في اللغة والعادات والتقاليد ونمط العيش، فلكل شعب طبعه وماضيه وتراثه وظروفه الخاصة التي تحتاج إلى مهارة كبيرة في فهمها، وخبرة طويلة لعلاج مشاكلها والتعامل مع مفرداتها، وخاصة إذا تعلق الأمر بإقليم واسع كالمغرب، يبدأ من برقة شرقا ولا ينتهي إلا عند ساحل المحيط غربا، وتختلف نواحيه ما بين جبال وهضاب وسهول وصحار وسواحل لكل ناحية منها ظروفها وطبيعتها، ويقطنها أقوام يختلفون فيما بينهم اختلافا شديدا ما بين أفارقة وبربر بدو وبربر حضر، ينقسمون إلى بطون وقبائل فلا يكاد يأتلف فريق منها مع الفريق الآخر، لأن هؤلاء البربر وإن تشابهوا في الجنس فقد اختلفوا في أشياء كثيرة. فهم في جملتهم لم يتعودوا حياة النظام أو الانضباط في ظل دولة واحدة، بل عاش كل فريق منهم في ناحيته راضيا بنمط من الحياة ورثه عن آبائه وأجداده، ولا علاقة له بما يجري حوله، وقد عاش من أزمان بعيدة دون أي رابط بغيره إلا رابط الحرب والعداوة والخوف، فلم يذكر التاريخ أنه قام من بينهم رجل يجمعهم.
ولم تفكر الدول السيطرة على شريط الساحل واستعمار أراضيه ومدنه واستخدام أهله، سواء أيام حكم الرومان لتلك البلاد أو الفينيقيين أو البيزنطيين، ولو كان هدف العرب من دخولهم إفريقية والمغرب بغرض الاستعمار وبسط النفوذ لما فعلوا إلا ما فعل من سبقهم من مستعمري تلك البلاد، ولكن العرب دخلوا إفريقية لجعلها قطعة ومصرا من دولة الإسلام، وكل من دخل من أهلها في الإسلام أصبح عضوا فاعلا في دولة الإسلام له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، وحتى أولئك الذين أرادوا أن يبقوا على ديانتهم الأولى من النصارى أصبحوا في دولة الإسلام أهل ذمة، ومن حقهم العيش في أمن وأمان تصان أعراضهم وأموالهم ودور عبادتهم نظير جزية بسيطة يدفعونها عن الرجل القادر على العمل دون الطفل والمرأة والشيخ الكبير.
لم يشعر البربر والأفارقة في المغرب بعد دخولهم الإسلام وانضمامهم إلى الدولة الإسلامية بالمهانة أو الإذلال أو القهر فقد خلّصهم المسلمون من عبودية الأقوام الذين استعمروهم واستغلوهم وسرقوا خيرات بلادهم.
من هنا يمكن القول بأن البربر والأفارقة بدخولهم الإسلام وانتسابهم إلى دولته تخلصوا من المتاعب والشقاء الذي عانوه في فترة حياتهم السابقة، وفتحوا أعينهم لعصر جديد من المساواة والعدل والاحترام. حتى أولئك الذين بقوا متمسكين بديانتهم السابقة باتوا يتطلعون إلى حياة أفضل في ظل دولة الإسلام التي يحترم فيها غير المسلم وتصان حقوقه.
لقد شارك البربر في الفتوحات الإسلامية، فقد كان لهم النصيب الأوفر في فتح الأندلس ولهم الحق في مشاركة العرب في حكم البلاد، ومن هنا فقد وجد العرب أنفسهم في المغرب أمام مشاكل عصية الحل، أو يتطلب حلها زمنا طويلاً وحكمةً وأناةً وصبراً.
ولم يكن العرب الفاتحون ليسلموا بمشاركتهم حكم البلاد أحداً، وهذا بالطبع لا يشمل كل العرب الذين وفدوا على المغرب منذ بواكير الفتح الأولى، فهذه هي العصبة الصالحة المؤمنة التي بعث بها عمر بن عبد العزيز من التابعين والعلماء لتعليم البربر أمور دينهم السمح القائم على العدل والمساواة فلا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
لقد خضع المغرب للدولة الأموية في دمشق، ودان لها أسوة بباقي الأمصار الإسلامية المنتشرة في أصقاع الأرض، ومن ثم إلى الدولة العباسية في بغداد، وعليه فقد حكم المغرب ولاة مبعوثون من الدولة الأموية ومن بعدهم ولاة مبعوثون من الدولة العباسية.
وسوم: العدد649