علمانية.. أم وثنية؟!
أذكر أنني حاورت شخصاً تركياً صبّ جام غضبه على الأكراد لأنهم يبغضون ويشتمون "أتاتورك" باني نهضة تركيا الحديثة ورافع شأنها - برأيه -، ومكرّس "العلمانية" في نظاميها السياسي والاجتماعي!
سألته: هل في العلمانية الغربية التي استلهم أتاتورك نظامَها والتي تفاخر بها.. مُقدَّسٌ بشري؟
وهل يَعتبر البريطانيون الانتقاصَ من الزعيم البريطاني "ونستون تشرشل" - المُجمَع على احترامه لديهم - مُخالِفاً للنظام العلماني الذي يَحكمهم؟
فأجاب: أنْ لا.
قلت: إذن أنت تتحدث في تركيا الأتاتوركية عن وثنية لا عن علمانية، لأن العلمانية - المُفترَضة - لا مُقدّسَ لها، ويُفترض أن تقف من الأديان والمقدّسات - الإلهية أو البشرية - على مسافة واحدة، بالبحث والانتقاد، بل وبالسخرية والاستهزاء!
مثل هذه الوثنية التي يعيشها الأتاتوركيون، ويحسبونها علمانية، يعيشها في عالمنا العربي الناصريون والبورقيبيّون والبعثيون والماركسيون، بزعم أنهم متحرّرون من القيم الدينية "الرجعية" القائمة على المقدّس اللاهوتي، بينما هم غارقون إلى ما فوق آذانهم في تقديس شخصيات لا تصل قيمتها الاجتماعية - ولا بحال من الأحوال - حتى إلى مستوى كونفوشيوس أو بوذا من الآلهة الوثنية، فضلاً عن محمدٍ وموسى وعيسى - عليهم الصلاة والسلام - من أنبياء الله ورسله!
لن أخوض هنا في الجدل الذي يَعتبر من الوثنيات كذلك، تقديسَ نظرياتٍ وأفكار وأهواء، وجَعْلَها من المُسلَّمات التي يُشكّ في صحة عقل مَن يرفضها في أقصر تقدير، أو يجعله ذلك عُرضةً للتكفير والتخوين والاتهام بالتآمر والتطرّف في التقدير الأبعد؛ لأن هذا التقديس - لهذه النظريات والأفكار والأهواء - هو انعكاسٌ بالضرورة لتقديس مَن أطلقها وبشّر بها، مهما زعم الزاعمون تحرّرهم من التقديس البشري أو الإلهيّ!
هذا التقديس "الإلهي" كامن في أعماق الفطرة الإنسانية، يستحيل التملّص منه، حتى ممن ضلّ طريقه إلى مُقدَّسه الحقيقي، لذا يستعيض عنه بمقدّس بشري أو حجري أو فكري، في محاولةٍ لإرواء حاجةٍ فطرية، ولو بماء أُجاج يزيده عطشاً!
قد تجد مُقدِّساً لذاته، يَستثمر مقدَّسات مجتمع ما، ليشعل صراعاً طائفياً هو سياسيّ دنيويّ في الأساس، لتحقيق مكاسبه الذاتية أو مكاسب دائرته الضيّقة، بالصعود فوق جثامين مئات آلاف أو ملايين المضحّين بأرواحهم، في الحروب الطائفية العمياء! التي يباركها كهنة الأديان ويأجّجون سُعارَها، لخدمة أوثانهم الخاصة، الداعية إلى القتل والمفاصلة لاختلاف الدين!
أرجو ألا يُفهم من حديثي أمران:
- الدعوة المطلقة إلى قيم العلمانية التي أتفهّم نشأتها وَفق ظروف العصور الوسطى الغربية، ووفق قيم الديانة المسيحية، المفتقرة إلى القوانين السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
- تكفير الأطراف المتصارعة طائفياً، أو الدعوة إلى إيذاء أفرادٍ من هذه الأطراف لا تُخفي كفرَها، أو لا يؤدّي مُجمَلُ تفكيرها إلا إلى الكُفر الصريح، فليس الإسلام - الذي أعتنق - بالدّين الذي يأمر بقتلٍ أو مُفاصلةٍ لمجرّد الكفر، وإنما هو البَغْيُ والظلم والاستبداد والإكراه، الذي يَستدعي القتالَ والمفاصلة، ولو لمسلم!
وسوم: العدد 653