العمل السياسي الحزبي... فكرة أم مصالح ومليشيات؟
العمل السياسي الحزبي...
فكرة أم مصالح ومليشيات؟
د. ماهر الجعبري-الخليل-فلسطين
كما تصطف الذرات في البناء البلّوري الصلب على شكل مخصص وتجتمع بروابط قوية لتخرج بكتلة متجانسة ذات صفات مميزة، كذلك يتكتل السياسيّون؛ فالتكتل الحزبي بناء بلّوري يتميّز عن المجتمع المائع الذي يتشكّل فيه، يبدأ التكتل بمجموعة من الناس آمنوا بفكرة، ومن ثم انطلقوا ليشكّلوا المجتمع المائع بحسبها.
وهي عملية طبيعية في الأمم والشعوب؛ يختلف فيها جوهر ومصدر وتفاصيل الفكرة التي يتم التحزّب حولها؛ مبدئية أم مصلحية، وعالمية أم وطنية أو فئوية؟ وتختلف فيها طريقة التغيير؛ أتستند إلى العمل السياسي- السلمي أم الدموي والعنف؟ وهل تقوم على التمايز عن الوسط المائع الذي تتشكل فيه، أم تحاول التسلل عبره ضمن ما يتيح لها من ممرات سياسية (مثل المشاركة السياسية في الديمقراطية)؟
وقد قيل "لا يمكن لجيش جرار أن يهزم فكرة". لذلك تكون الغلبة في النهاية للفكرة القوية المؤثرة، وهي التي تستطيع أن تكسب العقول وتحتلّ القلوب. ومن ثم لا يصل الحزب غايته قبل أن يخوض مضمار العمل السياسي في المجتمع، وهو يحتاج في ذلك العمل إلى الدعوة للفكرة بالإقناع لكسب العقول، مع الدعاية وتزيين الفكرة لاجتذاب القلوب لها، حتى إذا ما هيمن الحزب عليها جميعا وتمكن من الأوساط السياسية حسم أمر التغيير، فكان الناس معه هم حرس الفكرة وحماة التغيير من أية ردة فعل من فلول النظام القديم، ومن أية هجمات خارجية ترى في التغيير تهديدا لمصالحها.
وفي التغيير المبدئي تكون الفكرة هي القيادة (الفكرية)؛ بمعنى الموجه للعمل السياسي والضابط للتغيير والحَكَم عليه، ويكون الالتفاف حولها لا حول شخصيات سياسية أو قيادات شعبية. وفي تجارب الأمم والشعوب، هناك من حمل فكرة الإلحاد وغيّر المجتمع بحسبها كما في الثورة البلشفية، وهناك من حمل فكرة العلمانية والحريات كما في الثورة الفرنسية. وفي فضاء الأمة الإسلامية، هناك من يحاول إعادة إنتاج التجربة الفرنسية، وهناك من يحمل فكرة الإسلام وعقيدته كما في ثورة الأمة المتفجرة.
إن الفكرة الإسلامية للتغيير قوية مؤثرة تقتنع بها العقول وتشتعل بها القلوب، وهي قادرة على توجيه العمل السياسي الحزبي وجهته الصحيحة. وهذا الحكم على نجاعة الفكرة الإسلامية في العمل الحزبي لا ينطلق من مجرد التديّن بالإسلام (وهو منطلق حق)، ولكنه من حقيقة العقيدة الإسلامية التي تقنع عقل الإنسان وتوافق فطرته، ومن تميّز نظام الحياة الإسلامية وطريقة العيش فيها، التي تتأكد عند المحاكمة العقلية والفكرية.
نعم، لا يمكن لجيش جرار أن يهزم فكرة، فكيف بها إذا كانت فكرة ربانية؟ ولكن لا يمكن أن تظل الفكرة السياسية ربانية نقية وهي تلتقط من كل حدب وصوب ما تجده "حكمة" أو تعتبره مصلحة بمقياس العقل البشري. بل لا تكون ربانية إلا إذا حقّقت صفة الخضوع للأحكام الشرعية، في كل تفاصيلها.
ومن ثم فإن صوغ العمل السياسي الحزبي على أساس الإسلام يوجب التسليم بقطعيات الإسلام دون مجاملة، والمفاصلة مع تفريعات الغرب التشريعية دون مهادنة (حتى لو بدت أو صيغت كأنها لا تعارضه)، ومن ثم حمْل المشروع الإسلامي للتغيير الجذري دون أي تنازل، مهما صغر، مع الإدراك أن انحراف الخطوط في المسارات يبدأ بتباعد قليل ومن ثم تتسع الزاوية بشكل متسارع.
إن مجموعة المحددات التي تجعل الحزب صاحب فكرة إسلامية صافية يمكن إجمالها في غايات سياسية جامعة، تشمل: (1) وجوب استعادة سلطان الأمة المغتصب من أيدي الحكام العملاء، ولذلك فالتغيير هو عملية تحرر من الهيمنة الخارجية (2) وجوب تحكيم الإسلام كنظام سياسي متكامل متميز عن غيره من كل أنظمة الحكم، تكون السيادة فيه للشرع، ويوجب رفض التشريع الوضعي بكل أشكاله ووسائله، ولذلك فالتغيير هو عملية شرعية (3) وجوب وحدة نظام الحكم في دولة تجمع المسلمين جميعا، يكون لها رئيس واحد يسن قوانينه تجسيدا للأحكام الشرعية، ولذلك فالتغيير هو عملية سياسية.
ولا يتحقق ذلك إلا إذا تمكّن الحزب من تحقيق انصهار القيادة السياسية في الميدان في الفكرة الإسلامية التي تهيمن على الوجدان، ومن ثم التحامها مع القوة العسكرية التي تحسم أمر التغيير. وبعد التغيير والوصول للغاية يحرص الحزب على أن تكون الفكرة (الإسلامية) فوق الدولة، والدولة فوق الحزب، وبذلك تبقى الفكرة فوق كل شيء، ويبقى البناء بلوريا متينا ذا صبغة مميزة تستمر بالتشكل والنمو حسب الفكرة.
أما ما يحصل عند بعض "الكينونات السياسية" الساعية للتغيير من تحصيل القوة دون الفكرة فإنه يفتح الباب لتحولّها إلى مليشيات دموية لخدمة أجندات من يسلّحها، كما حصل مع "حزب الله" وهو يد إيران في سوريا بعد لبنان، وكما تكرر مع جماعة الحوثيين في اليمن، وذلك عندما صارت البندقية فوق الفكرة.
وكذلك إن ما يحصل عند بعضها الآخر من جعل المصلحة حكما على الأعمال، فإنه يمكن أن يحوّلها إلى أدوات سياسية بأيدي من يحقق مصالحها، ويمكن أن تصبح جسورا لتمرير مصالح خارجية عند التقائها مع بعض المصالح الحزبية، كما حصل فيما تمخّض عن بعض الثورات، وكما تستعمل بعض الأنظمة العربية بعض الأحزاب في تحقيق مصالحها. وهي أيضا إذا وصلت للحكم عبر "الممرات" الديمقراطية لا تجد فيما تحمل مشروعا مبلورا قابلا للتطبيق، فتظل تحوم حول فكرة فضفاضة وشعارات عامة، ولا تُحدث تغييرا.
إن خلاصة الأمر أن العمل الحزبي هو سعي للتحرر بالعمل السياسي الشرعي، ولا يكون ربانيا إلا عندما تكون طريقة التغيير أحكاما شرعية ملزمة.