العلم بين التكفير والتنوير
والمفارقة الغريبة هنا أن طريق العلم نفسه - الذي جعل حياتنا آمنة - لم يكن طريقاً آمناً، بل كان مليئاً بالأشواك والجراح بل الموت كذلك، فكم من عالم لقي نهايته خلال بعض التجارب، وكم من عالم تعرض للتشهير والاتهامات الشنيعة والخطيرة التي وصلت في أحيان كثيرة إلى حد التكفير والزندقة، كما فعل رجال الدين مثلاً ضد العلماء في أوروبا في القرون الوسطى، ومن ذلك ما حصل للعالم الإيطالي جوردانو برونو (١٥٤٨- ١٦٠٠) الذي أحرقوه حياً بسبب طروحاته حول كروية الأرض، وما حصل كذلك للعالم البولندي كوبرنيكوس ( ١٤٧٣-١٥٤٣) الذي وضع نظرياته حول دوران الأرض، لكنه اضطر للاحتفاظ بها وعدم نشرها في حياته خوفاً من بطش الكنيسة التي راحت تنكّل بالعلماء أمثاله!! كما فعلوا بالعالم الإيطالي جاليليو جاليلي(١٥٦٤- ١٦٤٢) الذي هددته الكنيسة بالإعدام حرقاً إن لم يتراجع عن طروحاته حول كروية الأرض!!
وهكذا واجه هؤلاء العلماء الكبار رفضاً قاطعاً ومعارضة شديدة، ولاسيما من رجال الدين الذين اتهموهم بانحرافات وضلالات وصلت في كثير من الأحيان إلى حدّ التكفير والتهديد بالإعدام حرقاً !!
والحقيقة أن هذه المواقف ضد العلم والعلماء لم تنحصر في أوروبا وحدها، وإنما تكررت هذه المواقف في أنحاء عديدة من العالم، في مختلف العصور، لأن الناس لا يقبلون الأفكار الجديدة بسهولة، ولابد من الاعتراف بأن بعض علمائنا المسلمين لم يسلموا من أمثال هذه الاتهامات، لكن مع اختلاف جوهري هو أن تاريخنا الإسلامي لم يشهد حالة واحدة حوكم فيها عالم مسلم لأنه تحدث في الكونيات كما حوكم علماء الكونيات في أوروبا، وإنما حوكم لدينا بعض العلماء المسلمين لطروحات تتعلق بالعقيدة والشريعة، كما حصل مثلاً تجاه الفيلسوف الفقيه الأندلسي ابن رشد (١١٢٦ -١١٩٨) الذي اتهمه بعض علماء عصره بالكفر والإلحاد، ومن العلماء الذين تعرضوا كذلك للاتهام الشيخ الأزهري علي عبد الرازق (١٨٨٨- ١٩٦٧) الذي تعرض لاتهامات كبيرة عند نشره كتاب (الإسلام وأصول الحكم) الذي اعتبره علماء عصره أنه كتاب يدعو إلى فصل الدين عن السياسة، أي مبشراً بالدعوة إلى العلمانية التي اعتبرها جمهور العلماء كفراً وخروجاًعن الدين !!!
واليوم يدور الزمن دورته كما يقولون فبدأنا نرى ونسمع اتهامات مماثلة توجّه إلى بعض الباحثين في الساحة الإسلامية، بل تعرض بعضهم إلى المحاكمات والسجن والتشريد، وأرغم بعضهم على تطليق زوجته بحجة خروجه عن الإسلام !!
ولسنا هنا بصدد تفنيد ما طرحه هؤلاء الباحثين، ولسنا كذلك بمعرض مناقشة الأحكام التي صدرت ضدهم، وإنما نريد التذكير ببعض دروس التاريخ التي تشهد أن معظم العلماء الذين تعرضوا فيما مضى إلى الاتهامات - بما فيها الكفر والإلحاد - بسببب الطروحات التي نشروها ، نقول إن الأيام أثبتت لاحقاً أن هؤلاء العلماء كانوا على صواب وأن الذين اتهموهم كانوا هم الخاطئين !!!
فهل آن لنا اليوم أن نتعلم من هذا المعلم الكبير ... التاريخ ... فنتريث طويلاً قبل إطلاق الاتهامات، وقبل المسارعة إلى التكفير والاتهامات الكبيرة للذين يطرحون اليوم آراء تبدو لنا صادمة أو مخالفة لما تعودناه من أفكار وأعراف؟!!
نقول لقد آن لنا أن نتعلم من التاريخ فلا نكرر أخطاء الآخرين ، فنسارع إلى التكفير والاتهام لكل فكرة جديدة، لمجرد أنها تتعارض مع قناعات تعودناها، فقد يترتب على هذه الاتهامات نتائج كارثية ليس على القائلين بالأفكار الجديدة فحسب، وإنما نتائج كارثية قد تلحق بالأمة كلها من جراء رفض هذه الأفكار التي قد تشكل فتوحات كبيرة للعلم، بل قد تكون سبباً في نهضة الأمة، ودخولها "عصر تنوير" جديد باتت الأمة اليوم في أمسّ الحاجة إليه !!
ويكفي هنا أن أذكّر بسيرة الفيلسوف الفقيه "ابن رشد" الذي رفضنا طروحاته ولم ننتفع بها نحن المسلمين، وانتفع به الأوروبيون والغرب عموماً باعترافهم هم، فقد ظلت كتبه تدرّس في جامعاتهم لعدة قرون، واعتبرت آراؤه إحدى الأسس التي ساهمت في بناء النهضة الأوروبية الحديثة!!
وهل نذكّر كذلك بطروحات "كوبرنيكوس" التي حرمتها الكنيسة باعتبارها كفراً وهرطقة ، ثم اعتبرت طروحاته من أهم أسباب الثورة الفلكية الحديثة، وأنها هي التي دشنت عهداً جديداً في حرية الفكر، فمهدت بذلك لانطلاق عصر النهضة الأوروبية المعاصرة !!!
وسوم: العدد 654