إصلاح المنظومة التربوية رهين بإصلاح المنتسبين إليها

إصلاح المنظومة التربوية

رهين بإصلاح المنتسبين إليها

محمد شركي

[email protected]

سيظل إصلاح المنظومة التربوية المغربية هاجسا  يؤرق الجميع ،أصحاب القرار السياسي ،وأصحاب القرار التربوي ، والمجتمع المدني بكل فئاته . ومعلوم أن الوزارة الوصية على قطاع التربية وبفعل هذا الهاجس حاولت إشراك أكبر عدد ممكن في استشارة مفتوحة  من أجل الحصول على خريطة طريق تفضي  إلى إصلاح للمنظومة التربوية طال انتظاره ، ولم يتحقق خلال عشرية  تلتها رباعية  وانصرمتا بخسائر مادية جسيمة، ونتائج محبطة ومخيبة للآمال . والمتأمل لما تمخض عن الاستشارة  المفتوحة ، ونشر مؤخرا يلاحظ  أنه اختزل الإصلاح في أمرين هما : البكالوريا الدولية  ، والتكوين المهني . والحقيقة أن إصلاح المنظومة التربوية أكبر من هذين الأمرين. فالباكلوريا الدولية والتكوين المهني مطلبان من مطالب سوق الشغل فرضهما الوضع الاقتصادي العالمي  الذي يمر بأزمة مستعصية حيرت الدول العظمى ، وأربكت  باقي دول العالم . و لعل الذين راهنوا على البكالوريا الدولية والتكوين المهني لإصلاح المنظومة التربوية إنما أرادوا الخروج من مأزق تداعيات الأزمة الاقتصادية، الشيء الذي يعني أن الإصلاح لا يعدو أن يكون مجرد مرهم  لا يجدي نفعا مع  استعصاء داء منظومتنا العضال . ولا شك أن المنشغلين بموضوع إصلاح منظومتنا التربوية  والذين  قصروا همهم على متطلبات سوق الشغل غفلوا غفلة كبيرة  عن أهم عنصر في الإصلاح وهو العنصر البشري ، كما أنهم بتركيزهم على ما هو مادي غفلوا عما  هو معنوي و أهم وأخطر من المادي . ومعلوم أن التربية هي عملية تنشئة  شاملة تضم المعنوي إلى المادي أو بالأحرى يكون فيها المعنوي موجها للمادي . فقد يفضي الرهان على كل من الباكلوريا الدولية والتكوين المهني إلى نتائج مادية ، ولكن ستكون الحصيلة عبارة عن أطر ذات كفاءة في تخصصاتها  إلا أن ذلك لن يعطينا العنصر البشري  السوي التربية والصادق المواطنة ، وإنما سيعطينا ما يشبه الإنسان الآلي  الذي يتقن ما هو مادي  ويفتقر كل الافتقار إلى  ما هو معنوي ، فتكون النتيجة نجاحا باهرا ماديا وخسارة فادحة معنويا . ومن أجل فهم القصد من الخسارة المعنوية  نحيل على واقع العنصر البشري في منظومتنا التربوية على سبيل المثال لا الحصر حيث ينعقد الإجماع  بين كل المنتسبين  لقطاع التربية على  فساد هذا العنصر بمختلف مكوناته ، وأن كل مكون  لا يرى إلا  فساد غيره  ،ولا ينتبه إلى فساده  تماما كما لا يتأتى  للجمل رؤية سنامه  بينما يرى أسنمة  غيره . فالمربون بكل  فئاتهم  من مدرسين  وإدرايين  ومراقبين  ومسؤولين ... يتحدثون عن فساد الناشئة  ،ولكنهم لا يقرون  بفسادهم أو  بدورهم في هذا الفساد . وأولياء  أمور الناشئة  يكيلون التهم  للمربين  ولا يقرون بفاسدهم  وفساد ناشئتهم أو بدورهم في  إفسادها . ومعلوم أن استشارة  أولئك  وهؤلاء وهم على هذه الحال  ستعكس لا محالة  ما هم عليه من توجيه التهم إلى بعضهم البعض، ولن تضع  بسبب ذلك الاستشارة أصبعها على مكمن الداء ، ولن تصل أبدا إلى الدواء إن غاية الناشئة  وأولياء أمورهم هي الحصول على شواهد تمكنهم من ولوج سوق الشغل ،ولا يهم كيف  ستكون هذه الناشئة  سلوكا ومعاملة وقيما وأخلاقا  ، ولا شك أن الشغل  بلا  قيم  ولا أخلاق هو أخطر خطر على هذا الشغل . وواقع الناشئة الذي لا ينكره إلا مكابر أنها  انحرفت  انحرافا كبيرا عن القيم والأخلاق الشيء الذي  انعكس على التحصيل فصار ت هذه الناشئة لا تحصل ، وإنما تتحايل بشتى الطرق  والوسائل من أجل الحصول على النتائج المفضية  إلى الشواهد  المؤهلة  لولوج سوق الشغل ، والنتيجة  هي سيادة الغش  والتدليس في كل نواحي الحياة  عندما تنتشر هذه الناشئة  فيها . ولنتبين هذا الأمر جيدا نضرب مثالا  من  مجال التربية نفسه الذي ولجه جيل من المربين كان همه الحصول على  النتائج بكل الطرق  والوسائل بما فيها طرق الغش المتنوعة الخطية  والرقمية الشيء الذين ترتب عنه فائض في الشواهد المزورة  لا  التزوير المعروف  بل التزوير الممنهج  الذي  يتم تمريره  عبر  قنوات المؤسسات التربوية ، وكانت النتيجة هي حمل  خريجي الجامعات والمعاهد شواهد فوق  كفاءاتهم  وقدراتهم ، وحين  يوكل إلى  هؤلاء  تربية الناشئة تنعكس نتائج  عدم الكفاءة  على  مردوديتهم ، ويستفحل داء المنظومة التربوية وأذكر أنني حضرت وليمة  حضرها بعض أساتذة التعليم العالي  فأثار أحدهم موضوع تدني  مستوى ابنه أو ابنته الدراسي   في التعليم الابتدائي ، وحمل مربيا  أو مربية  المسؤولية على ذلك ، ووافقه زملاؤه الرأي  ، وخاضوا في الموضوع كل خوض ، وأشار  إلي  أحد الحاضرين بعد أن كشف لهم عن مهمتي  كمراقب تربوي فوجد الأساتذة الجامعيون الفرصة  سانحة للعتاب  على مراقبة تربوية  لا تقوم بواجبها في نظرهم  ،ولا تحمي أبناءهم من عبث المربين فصدمهم رد التهمة عليهم بأن  الجامعة تمد قطاع التربية بأطر  لا تعكس  الشواهد التي  تسلم لهم  كفاءتهم  الحقيقية ، وقلت للذي  عرض  بمدرس أو مدرسة ابنه أو ابنته إنما جنيت ما قدمت يداك ، فلو أنك أخلصت في مهمتك  وخرجت طالبا في المستوى لوفرت لابنك  أو ابنتك مدرسا أو مدرسة  في المستوى  ، ولم يعجبه قولي لأنه  كالجمل لا ينظر إلى سنامه . فهذه النازلة  تثبت أن غياب  المعنوي أو القيم والأخلاق والرهان على المادي  والشواهد وسوق الشغل عبارة عن مغامرة غير محمودة العواقب . وشأن المنظومة التربوية  كشأن سفينة  تمخر عباب البحر ، وكل تقصير من ركابها  يفضي إلى غرقها  وضياع كل من يمتطيها . وكان على الذين  فكروا في استشارة الإصلاح أن يضعوا على رأس أولوياتهم  التفكير في كيفية تصحيح  انحراف  واعوجاج العنصر البشري أولا  قبل  إقامة بنيان الإصلاح على جرف هار ثبت انهياره في عدة محطات إصلاح . والإصلاح الحقيقي إنما  يبدأ من البيوت التي  تنطلق منها الناشئة، وذلك بتغيير  أذهان  ـ ولا أقول ذهنيات  ـ الآباء والأمهات  وأولياء الأمور من خلال اقتناعهم بأن التربية  ليست  هي حصول أبنائهم وبناتهم على الشواهد  التي  تفضي إلى سوق الشغل  بل هي إمداد المؤسسات التربوية أولا  بنشء نال مبادىء التربية  الأسرية السوية لتباشر عملها  مع مادة خام صالحة  لا مع مادة  نافقة من البداية ،علما بأن المؤسسات التربوية عبارة عن بوتقة تنصهر فيها سلوكات الناشئة  المختلفة ، وتكون النتيجة عبارة عن سلوك عام يطبع هذه الناشئة  صلاحا أو فسادا وقد لا يخطر ببال أولياء الأمور أنهم أول من يقوض  فعل التربية في المؤسسات التربوية بسبب  إهمالهم واجب التربية الأسرية حيث  تنتقل عدوى سوء التربية  أو انحرافها  من  الأسر  إلى  هذه المؤسسات  فيصاب  كل كمن فيه بالوباء الوخيم . ويبدأ الإصلاح من  محيط المؤسسات التربوية  حيث يجب أن  ترابط  عناصر مختلفة  تحميها  من أطراف مفسدة تسوق فسادها بين الناشئة . ويبدأ الإصلاح من بوابات المؤسسات التربوية  حيث يجب أن يرابط حراس أو أعوان يفتحونها  ويغلقونها في أوقاتها  حفاظا على الزمن المدرسي وزمن التعلم  ، ويمنعون الناشئة  تسور أسوارها  خلال  زمن التعلم ، أوقضاء  فترات الاستراحة خارجها ويبدأ الإصلاح من مكاتب  الإدارات التربوية التي يجب أن تسهر  على العملية التربوية لحظة بلحظة  ولا تختزل سهرها في عملية دفع الناشئة  من ساحات المؤسسات نحو الفصول الدراسية ، وتنفض  يدها بعد ذلك ظنا منها أنها قامت بواجبها على أكمل وجه ويبدأ الإصلاح من تحرك  جهاز المراقبة  بكل تخصصاته  مع وجوده الدائم داخل المؤسسات التربوية لمتابعة كل ما يجري فيها ، ولا يقتصر عمله على مجرد زيارات فجائية  وتحرير تقارير لا تعرف سبيلا للاستثمار حين تصل إلى من يهمهم الأمر . ويبدأ الإصلاح من مكاتب النواب  ومديري  الأكاديميات ومن يعمل  تحت سلطتهم من أطر على اختلاف  تخصصاتها  بحيث يخصص جزء من عمل هؤلاء للوجود بالمؤسسات التربوية  ولا يقتصر الأمر  على حضور الدخول المدرسي  وأعياده أو على حضور حفلات  نهاية السنة أو على زيارات  في بعض المناسبات  وتكون غالبا ذات طابع إشهاري  . وقد يتطلب الأمر حضور هؤلاء في  بعض المؤسسات طالما  اختلت فيها موازين التربية  عوض القبوع في المكاتب قبوع القنافذ في جلدها  وتواريها ،والاشتغال  بتوقيع الأوراق وإنفاق  معظم الوقت في  مغازلة النقابات لتفادي  تهديداتها ،وما إلى ذلك مما يشغل عن معاينة ما يحدث في المؤسسات التربوية من تخريب للتربية .ويبدأ الإصلاح من أروقة الوزارة الوصية  عبر مختلف أطرها علت أم سفلت ليصب سعيها في خدمة المؤسسات التربوية ، ولا يكون ذلك إلا إذا تخلت هذه الأطر عن اعتقادها بامتلاكها العلم  والخبرة بحقيقة  وواقع ما يجري داخل هذه المؤسسات دون اعتماد رؤى وآراء من يوجدون بها ، ويدبرون شؤونها أويراقبونها مع التخلي  عن  عادة سن القرارات الفوقية ، وإصدار المذكرات من فراغ ووهم لا يمت بصلة لواقع ما يجري  بمؤسسات التربية . ولا يجب أن يقتصر احتكاك أطر الإدارة المركزية على إيفاد لجان بين الحين والآخر من أجل افتحاص  مؤسسات تربوية لا علم لها بما يجري فيها ،ولا تنتبه إلى ما يقدم لها من مغالطات الهدف منها  التمويه على فساد مستشر يخرب المنظومة التربوية ، وغالبا ما تأخذ زياراتها  الطابع الإشهاري . وأخيرا أختم بالقول إن إصلاح المنظومة التربوية  لا يكمن  في  الحصول على الشواهد المفضية إلى سوق الشغل  بل  يكمن في تكوين الإنسان الصالح السوي الذي إذا ولج سوء الشغل  ولجه صالحا مصلحا لا فاسدا مفسدا . وقد تحوز ناشئتنا تعليم ناشئة الدول المتقدمة تكنولوجيا ،ولكنها في غياب  التربية على القيم الصالحة لن تكون إلا فاسدة مفسدة. والتربية على القيم الصالحة  لا تكون عبرمناهج ومقررات  ومضامين نظرية بل تكون بالممارسة  والإجراء . ومما أثار انتباهي مؤخرا عبر بعض وسائل الإعلام أن أمة اليابان حين أحست  بخفوت التربية على قيمها الأخلاقية  تداركت أمرها ، وشرعت في  تطبيق برامج إجرائية وعملية  لصيانة التربية  قبل التفكير في  شواهد ولوج سوق الشغل . فهل  سينتبه  أصحاب القرار عندنا إلى ما بات يشغل أمة اليابان أم أنهم سيصرفون همهم إلى  تجريب أنماط الشواهد المفضية إلى سوق الشغل  والذي سيكون لا محالة مفلسا بلا  قيم ؟