يوم الأرض اليوم الذي لا يُنسى
منير شفيق
حقاً إن يوم الأرض هو يومٌ لا يُنسى، ولن يُنسى أبداً، فهو في قلب تاريخ الكفاحي المقاوم للشعب الفلسطيني. فها هي ذي الذكرى التاسعة والثلاثون ليوم الأرض تُسْتَقبَل في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة وفي فلسطين الثماني والأربعين من الجليل إلى النقب، كما في كل بلدان الشتات والهجرة بنشاطات وفعاليات كثيرة، ولا سيما من خلال التظاهرات المقدسية الشجاعة، حيث توجّت بسلسلة من الاشتباكات مع قوات الاحتلال والمستوطنين. فكانت مناسبة ليس لاستعادة ذكرها فحسب، ولإحياء ذكرى شهدائها فحسب، وإنما أيضاً، لمواجهة قوات الاحتلال، مع التأكيد على هدف تحرير فلسطين كل فلسطين. أي تحرير الأرض وعودة من زرعوها وأقاموا فيها آلاف السنين، وقد هُجّروا منها في العام 1948 بقوة السلاح، وارتكاب مجازر الترويع والارهاب من قبل العصابات الصهيونية. فأجيال بعد أجيال ظلت وستظل مشدودة إلى تلك الأرض حتى تحرّرها.
عبّرت معركة الدفاع عن الأرض التي حملت اسم يوم الأرض وجعلته ذكرى حميمة، ورمزاً ذا دلالات، عن أصالة الشعب الفلسطيني الذي رزح تحت احتلال دولة الكيان الصهيوني منذ العام 1948. وقد عانى الأمريْن من الاضطهاد تحت الحكم العسكري ثم الميز العنصري، فضلاً عن سياسات التهجير ومصادرة الأراضي، وسن القوانين الجائرة بحقه. وكان كل ذلك يرمي إلى اقتلاعه وتهجيره من فلسطين. فكان مجرد الصمود والبقاء في الأرض نضالاً، ومقاومة، وعنواناً كبيراً يدل على تمسّك الفلسطيني في وطنه وهويته الفلسطينية العربية.
ومن يدقق في الصعوبات التي واجهها الأجداد والآباء في فلسطين 48 تحت العسف الصهيوني العنصري المباشر، سوف يتأكد من أن تلك الصعوبات فاقت الصعوبات التي عاشها فلسطينيو المخيمات إثر تهجيرهم في العام 1948. فليس هنالك ما هو أقسى من أن تعامل معاملة المهاجر المنبوذ، أو المرفوض، وأنت في وطنك، وفي بيتك، وفوق أرضك. فأنت الغريب بلا اغتراب، وأنت صاحب الحق وخصمك القانون، وأنت المهدد بأن ترمى خارج الحدود بلا إنذار، ثم عليك أن تقدم طلب الإقامة وأنت في وطنك، وممن تطلبها؟ من الذي جاء أمس، بحماية حراب الاستعمار، مهاجراً، فمستوطناً، فميليشيا، فجيش احتلال واغتصاب.
ومع ذلك بقيت الهامات منتصبة، والرأس مرفوعاً، ليبقى العدو بوجودك متهماً بجريمة اغتصاب فلسطين، وبلا شرعية لوجوده، مهما حشد من اعترافات دولية. فكيف حين اقترن الصمود في الأرض مع النضال والاستمرار في مواجهة العدو كما رَمَزَ إلى ذلك يوم الأرض، وكما دوّت شعارات الأحفاد شباب اليوم وشاباته من أبناء الـ48 في يوم الأرض، في الذكرى التاسعة والثلاثين، تطالب بأن فلسطين كل فلسطين من النهر إلى البحر هي فلسطين. وهي القضية وهي الهدف الثابت المبدئي.
وإذا كان هنالك من مجموعة فلسطينية أخرى أخذت تحتل مكانها في النضال والمقاومة متصاعدة هذه الأيام، فهي أبناء القدس الكبرى وبناتها. فقد جاء الحراك في الذكرى التاسعة والثلاثين ليوم الأرض متميزاً في القدس، ليس لأن جماهيرها وشبابها وشاباتها يتميزون عن غيرهم من جماهير الضفة الغربية وشبابها وشاباتها. ولكن بسبب أن شروط نضال من يرزح تحت الاحتلال اسهل وأفضل من شروط النضال في المناطق التي تحكمها سلطة رام الله، والأجهزة الأمنية. وذلك بالرغم من أن الاحتلال واستشراء الاستيطان هما واحد في القدس والضفة الغربية.
هذا الفارق هو الذي أتاح للحراك الشبابي في القدس فرصة المبادرة في يوم الأرض لهذا العام. وقد انعكس ذلك هلعاً من جانب جيش الاحتلال، الذي اتخذ تدابير احتياطية في كل النقاط التي توقع انطلاق تظاهرات أو مرورها منها. وبالرغم من ذلك، ولأن لا أجهزة أمنية فلسطينية، ولا سلطة فلسطينية، ولأن ثمة وحدة بين الحراك الشبابي وكل الفصائل، استمرت المصادمات مع قوات الاحتلال طوال اليوم. ولم يُجْدِ العدو شيئاً قمعه لتظاهرة باب العامود والشوارع المحاذية، لتعود المظاهرات لتتفجّر ليلاً في أحياء القدس القديمة.
وكذلك الحال سارت مسيرات مشتركة من كل الفصائل في القطاع، والمحرّر بدوره من الأجهزة الأمنية وسلطة رام الله. وهو كذلك ما حدث بخروج جماهير غفيرة في مسيرتين كبيرتين في دير حنا والنقب وأماكن أخرى في مناطق الـ48.
هذا وبالرغم من الاحباطات التي تنشرها الأجهزة الأمنية، تحركت عدة فعاليات داخل المخيمات في الضفة الغربية، وتظاهرات هنا وهناك. وكان الأمر كذلك بالنسبة إلى فعاليات عدة داخل المخيمات في لبنان. وأما عربياً فقد تميّز شارع محمد الخامس في العاصمة التونسية بمسيرة كبيرة تلونت بأعلام المغرب والجزائر وتونس وفلسطين، وبمشاركة واسعة من أعضاء المنتدى الاجتماعي العالمي.
على أن المحزن المبكي بهذه المناسبة، في هذه السنة، جاء من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي أعلن في خطابه في القمة العربية المنعقدة يوم 28-3-2015 في القاهرة، دعمه للحملات العسكرية التي يشنها تحالف السعودية- مصر ودول أخرى ضدّ اليمن، وهو الفلسطيني الذي يتوجب عليه أن يقف على الحياد، أو يكون داعية للحوار ووقف الاقتتال. والأنكى ما جاء في خطابه، وهو في قمة الحماسة، من دعوة للتحالف نفسه بأن يتوجه إلى قطاع غزة وقصفه كذلك.
الأمر الذي يجفف ما يذرفه الكثيرون من دموع ساخنة على الوحدة بسبب الانقسام. كيف يمكن للشعب الفلسطيني ألاّ ينقسم إذا كانت هذه هي السياسة الرسمية التي يُراد أن تقوم الوحدة على أساسها. فمرحى للفعاليات والتظاهرات التي احتفى بها الشعب الفلسطيني في الذكرى التاسعة والثلاثين ليوم الأرض، وتُعْساً للهدية التي قدّمها محمود عباس له.