يوميات مواطن عادي (48)
في الثامن من آذار..كل يوم وأنتِ بخير
نبيل دويكات
قبل أيام معدودة من مناسبة الثامن من آذار يوم المرأة العالمي، فوجئت بتعليق غاضب لإحدى الزميلات الإعلاميات على موقع التواصل الإجتماعي. وبالطبع فإن المفاجأة لم تكن من التعليق،فالزميلة فضلاً عن كونها إعلامية معروفة فإنها تدرّس في إحدى جامعات الوطن، واعتدت، كما الكثيرون من طلبتها وزملائها، على مساهماتها المختلفة والمميزة. إنما المفاجأة كانت من مضمون التعليق، فضلاً عن المفاهيم والكلمات التي استخدمتها للتعبير عن الفكرة التي أرادت إيصالها من خلال ذلك التعليق. ورغم أنني لن أقتبس هنا ذلك التعليق كاملاً، إلا أنني سأقدم فقط مثالاً مقتبساً من الكلمات التي استخدمتها: "ذات الاسطوانة المقززة"، وأعتقد أنه كافٍ ليوضح مقدار الغضب الذي يختزنه ذلك التعليق، خاصة أننياعتدت على الزميلة ذات الخطاب الهادىء دائماً، والكلمات التي تنتقيها بعناية في حوارها في كل المجالات، وفي أشقالأحوال والظروف.
أما سياق التعليق فقد جاء في معرض الرد على خطاب سمعته الزميلة يتردد على لسان شخص وعبر مكبرات الصوت من إحدى دور العبادة. ومضمون الخطاب يدور كما يتضح من التعليق حول المرأة، وفيهاُستُخدمت جمل ومعانٍ كثيرة وعديدة يمكن تلخيصها وإجمالها بأنه ينتقد فكرة تحرر المرأة، ويعتبرها "مؤامرة غربية" على النساء والمجتمعات العربية والإسلامية، ودعم خطابه بمصفوفة معروفة ومألوفة من المفاهيم التي تشير وتدعم تلك الفكرة على نمط "التبرج، التزين، التعطر اللباس.. الخ من المفاهيم التي اُستخدمت على مدار سنين طويلة من قبل ذات الاتجاه الذي يناصب فكرة العدالة والمساواة للنساء، ومكرراً تلك "الوصمة" لأية حركة أو توجه يناصر المرأة وقضاياها بأنه مستورد من الغرب.
لا أعرف لماذا وجدت نفسي أغضب فجأة وأنا أكمل قراءة بقية التعليق، وفكرت عدة مرات في كتابة حلقتي القادمة من سلسلة "يوميات مواطن عادي" عن معنى ومغزى مناسبة الثامن من آذار، وما يحمله من معانٍ إنسانية، ليس للمرأة فحسب، وانما لكل الفئات والشرائح المقموعة والمضطهدة في كل بقعة من بقاع عالمنا الواسع، وبالأخص عالمنا ومحيطنا العربي. وفي مثل هذه الأحوال فإنه لا بد لكل إنسان من استحضار كل معاني وصور الدم والقتل والذبح والدمار والتشريد والاغتصاب والظلم والتعسف والاضطهاد التي غرقت بها مجتمعاتنا العربية خلال السنوات الأخيرة، ويستحضر أيضا صورا كثيرة وعديدة وأنماط الخطاب الذي بذر حصادا لا نزال نكتوي بناره حتى الآن. مر كل هذا الشريط في تفكيري ومحاولاتي. وفجأة وجدت نفسي أرغب في الكتابة بإتجاه مختلف، وربما مغاير لكل هذا الكم الهائل من المعلومات الذي يتراكم، ويواصل التراكم.
وجدت نفسي أرغب في الكتابة عن الإنسان. صحيح أن ما تسبب بكل تلك الأهوال هو إنسان، لكن ليس هو النموذج الوحيد في عالمنا الذي يعكس صورة الإنسان بكل معانيها. وسرعان ما قفزت تلك الإنسانة الى تفكيري. سأكتب ملخصاً عن تلك الإنسانة، كما عهدتها وعرفتها، وربما كتابتي تسعفني في أن أقدم نموذجاً آخر، مختلف، ويعكس معاني وقيما وأخلاقيات أخرى.
عرفتها لسنوات طويلة كإسم ونموذج لم يكن مرتبطاً الا بمعاني التضحية والنضال من أجل فلسطين، وكان لهذه الكلمات وقعها في سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. وكان اسمها مرتبطاً بتاريخ نضالي لم أكن أعلم عنه إلا القليل، وأجهل الكثير من تفاصيله بحكم ظروف وشروط النضال التي فرضت نفسها بوجود الاحتلال أولاً، وبحكم وجودها القسري خارج أرض الوطن. ولذلك كان الاسم معروفاً على المستوى التجريدي، أما في المستوى الملموس فأخذت العديد من تفاصيله تظهر، وترسم معالم المجرد وتحوله الى واقع ملموس في صورة أنسان كامل الملامح، وفي أبهى الصور.
لا أتذكر بالضبط في أي سنة تعرفت عليها شخصياً ووجهاً لوجه، ولكنما لن أنساه هو ذلك الوجه المبتسم دائماً، والملامح الهادئة التي تجعلك خلال لحظات قليلة من بدء الحديث معهاتشعر أنك أمام إنسانة عظيمة بكل المقاييس. أما حين تبدأ بقراءة ما تكتبه فإنك تستطيع شيئاً فشيئاً أن ترسم ملامح العظمة في تلك الإنسانة، وتعطي لمفهوم العظمة المجرد كل الملامح الإنسانية التي تقربه من تفاصيل وحياة كل إنسان. ولا تلبث أن تجد نفسك مشدوداً للمتابعة، وربما أحياناً البحث بين السطور والكلمات عن سر تاريخ تلك الإنسانة، وكيف تكونت تلك الروح عبر محطات التاريخ المختلفة.
مما لا شك فيه لدي الآن أن تاريخ هذه الإنسانة لم يبدأ عندما طالت يد الاحتلال زوجها ورفيق دربها، فقد استهلت شبابها في النضال من أجل فلسطين، بكل قناعة وعمق وهي التي كتبت عن خلفيات وذكريات انتمائها للعمل الوطني قائلة بأن بدايات بواكير وعيها كانت علىفشل الانظمة العربية في حرب حزيران، وأهمية إمساك الفلسطيني بقضيته في أحزاب فلسطينية مستقلة. وما لبثت ان انخرطت في العمل الوطني والنضالي، وحين حصلت على عضوية انتمائها الحزبي والوطني، لم تكن تعرف تفاصيل هذا الخيار، إلا أنها كانت متأكدة وجاهزة للانتظام والنضال، ثورة وإرادة الشباب دفعت الدم في شرايينها وأضاءت قلبيها. لكنها عرفت الكثير من التفاصيل لاحقاً ومضت دون تردد. بعد تسعة وعشرين عاماً من اغتيال زوجها ورفيق دربها كتبت تحت صورته:
"بكاميرتي في المكان الذي طلبني من والدي للزواج، كان سعيدا ومكتفيا،ووالدي يضحك ويقول له:
- إنك تطلب الغالية الوديعة، أنت صاحب اجمل ابتسامة رأيتها، لكني أخاف من يوم يأتون بك اليها محمولا، سيقتلها هذا.
تدخلت وقلت وقد انبعثت بي طاقة غريبة:
- عندها سأعيش على تأملات.. وأقتات على زاد من الذكريات والصور والكلمات"
1- جميع الاقتباسات الموجودة في المقالة تم اقتباسها بعد اخذ موافقة كاتبتها، ولم يتم ذكر اسمها خصيصا للحفاظ على صورة المغزى العام المراد من كامل المقالة، وحيث ان المقالة غير مخصصة اصلا، وغير كافية للكتابة عنها بشكل خاص، واعطائها التقدير المناسب.
وسوم: العدد 658