الصادق وتوحيد الأمة
صحيفة الوسط البحرينية
والصادق الذي أعنيه هنا هو الإمام أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق، الذي وُلد في مدينة الرسول (ص) في السابع عشر من ربيع الأول سنة ثمانين للهجرة النبوية، وتوفي فيها في الخامس والعشرين من شوال سنة مئة وثمان وأربعين للهجرة، ودُفن في مقبرة البقيع إلى جانب عددٍ من آبائه رضي الله عنهم أجمعين.
والإمام جعفر لُقّب بالصادق لأنه لم يُعرف عنه الكذب قط، ومعروفٌ عنه أنه من العلماء الأجلاء، ومن العُبّاد الأتقياء وهو إمام من أئمة المسلمين، فهو الإمام السادس عند الشيعة والخامس عند الإسماعيلية، وهو أحد الأئمة الكبار عند السنة، وقد اجتمع له من الفضل والعلم ما ندر اجتماعه لغيره، فقد روى عنه عددٌ كبيرٌ من علماء الحديث من السنّة والشيعة على حد سواء، كما تتلمذ عليه الإمامان أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس، وقد نقل عنه الإمام مالك اثني عشر حديثاً في كتابه «الموطّأ»، أما الثناء عليه فكان من جملة كبيرة من علماء عصره، منهم النووي والذهبي وابن خلكان وسبط بن الجوزي وآخرون لا يتسع المقام لذكرهم. وقد وصفه الإمام مالك فقال: «وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادةً وورعاً».
وكما تتلمذ عليه مجموعةٌ من علماء الشريعة، فقد تتلمذ عليه أيضاً مجموعة من علماء الطب والكيمياء، منهم جابر بن حيان عالم الكيمياء الشهير، وكان أيضاً عالم فلك وأديباً.
وقد سُمي المذهب الشيعي باسمه، ووردت أقوال عديدة عن سبب ذلك، لعل أرجحها كما أرى أن فترة إمامته بلغت قرابة الثلاثين عاماً، وهذه فترة طويلة نسبياً، مكّنته من وضع معظم أسس المذهب وتأسيس العلوم الرئيسة له، كما أن فترة حياته كانت مليئةً بالحراك الثقافي المتنوع، وهذا يمهد لوضع مفاهيم متنوعة للفكر في ظل حرية متاحة لتبادل المعارف والأفكار والخبرات.
وإلى جانب قوة الإمام جعفر الصادق العلمية، فقد كان قوياً في مواجهة الظلم والاستبداد، يقول ما يعتقد أنه الحق دون خوف ولا مواربة؛ ويروي التاريخ أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور كتب للإمام جعفر الصادق: «لم لا تزرنا كما يزورنا الناس؟»، فأجابه: «ليس لنا في الدنيا ما نخافك عليه ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنؤك بها ولا في نقمة فنعزيك عليها»، فردّ عليه قائلاً: «تصحبنا لتنصحنا»، فأجابه: «من يطلب الدنيا لا ينصحك ومن يطلب الآخرة لا يصحبك».
وهذه هي قمة القوة في قول الحق الذي يعتقده والصدع به دون خوف أو وجل، ولو تهيّأ للأمة عددٌ من أمثاله لتغيّر حالها كثيراً.
والدة الإمام جعفر هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وكان - رحمه الله - يقول: وُلدت لأبي بكر مرتين! والدارس لحياته الإجتماعية يجد قربه الشديد لأهل السنة، وكذلك حياته العلمية التي أشرت إلى شيء منها.
وقبل أن ألخص فكرتي الأساسية من هذا المقال أتساءل: لماذا كتبته في هذه الأيام تحديداً؟ وأجيب: إن وفاة الإمام كانت في الخامس والعشرين من هذا الشهر، وفيه تعود شيعته على عمل عزاءات بهذه المناسبة كما تعوّدوا أيضاً على عمل عزاءات لغيره في ذات المناسبات، وأيضاً عمل أفراح بمناسبة ولادتهم، وللإيضاح فإن مجموعة من السنة يقومون بالعمل ذاته ولكن في مناسبات مشابهة أو ذات المناسبات أحياناً. هذا العمل حفّزني لطرح سؤال آخر: ألا يمكن الاستفادة من هذه المناسبات في تقريب وجهات النظر بين السنة والشيعة؟ ألا يمكن أن يتفهم الطرفان أن أسلافهم كانوا أمةً واحدةً، وأن الجهل بتاريخهم وتشويه البعض لتراثهم هو الذي أوجد وغذّى الأحقاد بينهم؟
ولا أريد أن أذهب بعيداً، فالإمام جعفر خير شاهد على ذلك: انظروا كيف يتحدث عن أبي بكر الصديق وغيره من الصحابة، وانظروا إلى أسماء بناته وأبنائه، ثم انظروا إلى أسماء من تعلّم منهم وعلّمهم، وتأمّلوا فيمن أثنى عليه من كبار علماء السنة، ألا يدفعنا كل ذلك، وغيره كثير، إلى إعادة النظر في واقعنا المخجل؟ أمة واحدة تدين برب واحد ورسول واحد، ومع هذا يقتل بعضهم بعضاً، وربما يكفر بعضهم بعضاً، وعدوهم يرقب ذلك كله وهو في غاية الفرح والحبور والاطمئنان!
هذه المناسبات لماذا لا يحضرها السنة كما الشيعة ويتدارسون فيها تاريخ أجدادهم العظام، ويناقشون فيها واقعهم ومستقبلهم؟ البكاء وحده لا يكفي، والفرح أيضاً لا يكفي وحده، لا بأس أن نفرح ونحزن، ولكن الأهم هو أن ننقي واقعنا من الطوام العظام التي لحقت به بسبب جهلنا بتاريخنا وتاريخ الذين نبكيهم أو نفرح من أجلهم. أعتقد - والله أعلم - أنهم لو عادوا إلى الحياة ورأوا واقعنا المخجل لفضلوا العودة إلى قبورهم على العيش معنا في هذه الأجواء البائسة.
أمامنا فرص عديدة للعودة إلى العقل والمنطق، وقبلها الدين الذي نؤمن به للعمل على إصلاح واقعنا، ولكننا بحاجة إلى عقول ناضجة وقوة في الحق مقتدين بالإمام جعفر رضي الله عنه.
وسوم: العدد 658