من تواضع ارتفع

مادونا عسكر

يقول الفيلسوف "طاغور": " ندنو من العظمة بقدر ما ندنو من التّواضع". وكلّ العظماء الّذين أدركوا معنى العظمة الحقيقيّة يتوافقون على ارتباط العظمة بالتّواضع. إلّا أنّه غالباً ما يلتبس علينا المعنى، فنفسّر التّواضع على أنّه ابتعاد عن إدراك مقوّمات الذّات الإيجابيّة ونكرانها، أو أنّنا نعتبره ضعفاً، أو نخصّه بأشخاص معيّنين. وغالباً ما لا نسعى إلى تنمية هذه الفضيلة الّتي يقول عنها "ألفرد تنيسون": "التّواضع هو أبو كلّ الفضائل". وهو كذلك لأنّه النّبع الّذي منه تنبع كلّ الفضائل لتصبّ في بحر الإنسانيّة على المستويين الفكريّ والرّوحيّ.

يقابل هذه الفضيلة عيب متفشٍّ في مجتمعاتنا المسكينة والنّاتج عن عدّة عوامل تربويّة واجتماعيّة، وهو الغرور. والغرور هو الانخداع بكلّ الأعراض الزّائلة كالمال والشّهرة، وهو الاعتزاز بالنّفس وتمجيدها في الظّاهر في حين أنّها فارغة من الدّاخل.

كما ذكرنا أنّ للغرور عوامل تربويّة واجتماعيّة، ولا يولد المرء مغروراً لأنّ الغرور نتيجة لتلك العوامل.

- العامل التّربويّ:

كلّنا  كأهل نعتبر أولادنا الأفضل والأجدر والأبدع في كلّ شيء، إلّا أنّنا يجب أن لا نرسّخ في نفوسهم هذه الفكرة، وإنّما يجب تحفيزهم وتشجيعهم على السّعي ليكونوا الأفضل. لأنّ زرع هذه الفكرة في الإنسان والّتي هي أنّه وحده الأفضل دون أيّ استحقاق منه أو دون أي مجهود، وبما أنّ الأهل هم مصدر الثّقة بالنّسبة للطّفل، بالتّالي سينشأ على الاعتداد بالنّفس من فراغ.

وغالباً ما نرى أشخاصاً معتزّين بأنفسهم ليس لإنجاز حقّقوه وإنّما لأنّهم ينتمون إلى عائلة ذي شأن عظيم، أو لأنّهم يرتبطون من قريب أو بعيد بأحد أصحاب المناصب. ونجدهم غير قادرين على القيام بأعمال مفيدة لهم أو للمجتمع.

كذلك، قلّما ندرّب أولادنا على تحمّل المسؤولية، وذلك في أبسط الأشياء كأن يرتّب غرفته أو ألعابه، أو يساعد في بعض الأعمال المنزليّة البسيطة. وبذلك يفتقد لروح المشاركة والخدمة، إذ يلقي بواجباته على عاتق الآخر. وبتنا نرى في كلّ منزل تقريباً خادمة للأولاد، وهذا من أفظع ما يكون، لأنّنا بذلك نعلّمهم ومنذ الصّغر على أنّهم يُخدمون ولا يَخدمون. ولا عذر لنا في ذلك ويجب أن لا نتذرّع بالحياة الصّعبة، أو كثرة الأعمال وضغوطات الحياة. إنّ أجدادنا وجدّاتنا كانوا يعملون ويتعبون، ولم يتح لهم أن يتملّكوا الوسائل التّقنيّة والمريحة والمختصرة للوقت الّتي نمتلكها اليوم. ومع ذلك كانوا يربّون عائلة كبيرة على المحبّة والخدمة والمسؤوليّة.

إنّ التّربية تشكّل العامل الأساس في بناء الإنسان، وفي العائلة يبدأ الطّفل باكتساب أولى خبرات حياته. فإن تربّى على أنّه الأفضل دون أن يبرهن على ذلك، ودون استحقاق منه، فلا بدّ أن يصاب لاحقاً بداء الغرور الّذي لا يشفى منه إلّا بصعوبة.

وفي نفس الخطّ وعلى المستوى التّربويّ والتّعليميّ، نسلّط الضّوء كمعلّمين على تلاميذ معيّنين إن بسبب قدراتهم المميّزة، أو بسبب شخصيّتهم اللافتة والجاذبة، ونجعلهم محور الاهتمام ونحيط بهم ونميّزهم عن الآخرين، فنخلق لديهم تعالياً وتكبّراً ولا بدّ أنّهم لن يتقدّموا لاحقاً، لأنّه لم يثبت أنّ الغرور والتّعالي عاملان لتحفيز الإنسان على التّقدّم والتّطوّر وإنّما الغرور يوقف الإنسان عند حافة نفسه ولا يعود يرى إلّا إياها، في حين أنّ الآخر المتحلي بالتواضع يتقدّم ويسبقه بأشواط.

 - العامل الاجتماعي:

 من أسوء خصال مجتمعنا بغالبيّته، أنّه ميّال للانتقاد السّلبيّ باستمرار، باعتبار أن ّ كلّ ما يفعله الآخر ناقص وسلبيّ. وهذا الانتقاد المستمرّ ليس سوى حجاب يخفي وراءه الأشخاص نقصهم وعدم ثقتهم بأنفسهم.

كما ينشأ لدى الإنسان نتيجة لهذه الفكرة، روح التّكبّر والتّعالي والنّقمة أحياناً على من هم حقيقة منجزون ومبدعون. فعلى سبيل المثال، قلّما ننظر إلى المجتمعات المتطوّرة من ناحية كفاحها وإنجازاتها وتقدّمها وتطوّرها، ونميل أكثر للبحث عن ثغراتها الأخلاقيّة والتّفنّن في انتقاد سلبيّاتها. في حين أنّ لكلّ مجتمع إيجابيّاته وسلبيّاته، إلّا أنّ تلك المجتمعات المتطوّرة، لم تتقدّم من فراغ، ولم تنجز ما أنجزته إلّا لأنّها كافحت بنفسها وعملت على تطوير ذاتها.

ناهيك عن اهتمامنا المفرط بالمظاهر المادية، والسّعي لأن نكون أفضل من هذه النّاحية، حتّى وإن ترتّب علينا معوقات ماديّة. وذلك يرتبط بإرضاء نظرة الآخر لنا ومنافسته على اقتناء الماديّات، فنهدر الوقت ونجهد الذّات في سبيل تحقيق المظهر الماديّ، ونهمل الجانب العقليّ والفكريّ والنّفسيّ.

ولا ينبع الغرور إلّا من عدم ثقة بالنّفس، وإدراك ضمنيّ بالنّقص والعجز عن القيام بما يبهر في الحقيقة من أعمال تفيد المجتمع وتطوّره.

ولمّا كان مفهوم العظمة مرتبط بالتّواضع، فلا بدّ من شرح هذا المفهوم لندرك من خلاله أهمّيّة التّواضع، وبالتّالي التّعمّق أكثر بمفهوم التّواضع كي لا نعتبره  إنكاراً  لمقوّمات الإنسان الإيجابيّة أو محوراً لحياة الضّعفاء.

العظمة هي عظمة النّفس والرّوح وليست العظمة مرتبطة بالمكانة الاجتماعية والأملاك الماديّة. كما أنّها كبر الإنسان في سلوكه مع الآخر وليس تكبّره عليه. من هنا رفعة الإنسان وكبره النّفسيّ والأخلاقيّ مرتبطان بفضيلة التّواضع. وسنتوقّف عند نقاط محدّدة تبيّن لنا ماهيّة التّواضع، وأهمّيّته كعامل أساسيّ في بناء الإنسان فكريّاً ونفسيّاً وروحيّاً.

- معرفة القيمة الشّخصيّة وتحديدها:

عندما يحدّد الإنسان نفسه كقيمة بحدّ ذاته بعيداً عن أيّ مؤثّرات خارجيّة تشكّل قيمته، كالانتماء إلى بلد معيّن أو دين معيّن أو عائلة معيّنة، يتعرّف عندها أكثر على ذاته ويتمكّن أن يميّز بصدق إيجابيّاته من سلبيّاته، ويدرك نقاط قوّته ونقاط ضعفه. وبالتّالي يثابر في رفع الأولى ومحاولة التّخلّص من الثّانية قدر الإمكان. هذه المعرفة الذّاتيّة والّتي تتطلّب صدقاً ومصالحة مع الذّات، تساهم أوّلاً في بناء الإنسان لينطلق فيما بعد إلى بناء العائلة والمجتمع.

- إدراك محدوديّة الذّات:

يسعى الإنسان بشكل أو بآخر إلى الكمال إلّا أنّه ليس كاملاً بطبيعته البشريّة، ويخضع للنّقص والضعف البشريّين. وهذه المحدوديّة لهي نقطة قوّة في الذّات الإنسانيّة إذا تمّ التّعامل معها بإيجابيّة، بمعنى أنّها تحفّز الإنسان على البحث الدّائم عن كيفيّة التّقدّم والتّطوّر في سبيل الوصول إلى القرب الممكن من الكمال.

محدوديّة الإنسان على المستوى الفكريّ والرّوحي هي نعمة تشكّل تحدّياً للإنسان مع ذاته، وبذلك ينطلق من محدوديّته الّتي يدركها تماماً ولكن لا يقف عندها ويستسلم لها. ويثابر ويحاول جاهداً في تخطّيها. وهي أيضاً نقطة مهمّة في تواضع الإنسان أمام ذاته وأمام الآخر. فمن عرف نفسه وقدراتها الّتي مهما بلغت من إبداع وعبقريّة تبقَ على المستوى البشري محدودة، تواضع أمام ذاته وأمام الآخر.

- أن ينظر الإنسان إلى الآخر على مستوى نظره:

وذلك بالاعتراف أنّه متساوٍ مع الآخر على المستوى الإنسانيّ وعلى مستوى المحدوديّة البشريّة. وإن كان يحمل الإنسان في ذاته مميّزات تفرّقه عن سواه، فلا بدّ أنّ الآخر أيضاً يحمل في ذاته ما يميّزه عنه. فالبشريّة تشبه حديقة كبيرة تختلف فيها أشكال الزّهور وعطرها وألوانها وبالتّالي لكلّ منها مميّزاتها.

لا يجوز النّظر إلى الآخر بتعالٍ لا ولا بخوف،  وإنّما ننظر إليه كمساعد ومساند لنا بما يملكه من مميّزات لا نملكها نحن بهدف بناء بعضنا بعضا أوّلاً ومن ثمّ بناء المجتمع.

- أن يحسب الإنسان الجميع أفضل منه:

وليست الفكرة طوباويّة بقدر ما هي اعتراف ضمنيّ بالنّقص البشريّ، كما أنّها محفّزة ومشجّعة للبحث دوماً عن الأفضل. وهي الاعتراف بالأخطاء الّتي يمكن للإنسان أن يرتكبها في كلّ حين، فجعل النّفس معصومة عن الخطأ يؤدّي إلى الغرق في الكبرياء الفارغ الّذي هو طامة كبرى للنّفس. إذ إنّها وهي الغارقة في الظّلمة يُهيّأ لها أنها سالكة في النّور. الكبرياء والغرور يسقطان الفضائل الممنوحة للإنسان في حين أنّ التّواضع يبيّن للنّفس الإنسانيّة وللعقل الإنسانيّ سبلاً عديدة يسلكها ليتقدّم ويتطوّر ويرتقي سلّم العظمة.

- خدمة النّاس:

عند أقدام المحتاجين تسكن العظمة، وتتحقّق العدالة. "فمن أراد أن يكون عظيماً فليكن خادماً"، يقول السّيّد المسيح. لأنّ العظمة هي في الانحناء لأخينا الإنسان وخدمته بمحبّة وتواضع وتفانٍ. لأنّنا ونحن نملك أن نُخدَم، نَخدمُ الآخر وهذا الأمر هو منتهى العدالة.

وخدمة النّاس تكون بمحبّة وحياء، ولا نتبجّح في خدمتنا للآخر لأنّ ما يطلبه منّا الآخر من خدمة هو حقّ له وليس منّة منّا. وهنا تتبيّن لنا المساواة على المستوى الإنسانيّ والبشريّ. كما أنّ خدمة النّاس تكون بمنح الأفضل وذلك باعتبارنا نخدم أنفسنا، فتأتي خدمتنا مثاليّة وكاملة.

- الاهتمام بالجانب الرّوحيّ:

وهو الجانب الأعمق في الإنسان والحياة الدّاخليّة الّتي قلّما يبدي لها اهتماماً حقيقيّاً. ففي وسط حياة متسارعة الأنماط، وضغوطات حياتيّة ومعيشيّة، يهمل الإنسان إلى حدّ بعيد الجانب الرّوحيّ.

والاهتمام بالجانب الرّوحيّ يكون بالاختلاء مع الّذات وتخصيص وقت لها بانتظام، والتّأمّل بها وتقييمها. ولعلّنا اليوم نحيا في عالم ممنوع علينا فيه الاختلاء بذواتنا، بسبب اهتمامنا المفرط بالأخبار السّياسيّة والمناقشات الإعلاميّة الّتي لا تقدّم ولا تؤخّر. وبسبب هدرنا للوقت في متابعة ما يقدّمه لنا الإعلام وشبكات التّواصل الاجتماعي من سلوكيّات تزيد من ابتزاز غرائزنا وعنصريّتنا.

في ذاتنا العميقة يعيش التّواضع، هذه الفضيلة الّتي رفعت كلّ ذي نفس أدركت أنّها تعظم متى تواضعت. وامتنعت عن التّفاخر والتّعالي والتّكبّر، لأنّها علمت يقيناً أنّه مهما كبر الإنسان ومهما عظم شأنه يبقى صغيراً أمام عظمة الحقيقة. وبالتّالي أدركت أنّه لا يمكنها التّباهي بشيء إذ إنّه متى سطع نور الحقيقة سينكشف للجميع جوانب الظّلمة في النّفس الإنسانيّة.