ابن جنّي في حلب

يستهويني موضوع متابعة زيارة الأعلام لمدينتي، ومعرفة الأماكن التي نزلوا فيها، والأعمال التي قاموا بها، وما إلى ذلك.

وأتناول هنا علَماً من أعلام العربية، ذُكِرَ أنه دخلها، وكان له فيها شأنٌ، وهو أبو الفتح عثمان بن جني.

قال الزركلي: "عثمان بن جني الموصلي، أبو الفتح: من أئمة الأدب والنحو، وله شعر. ولد بالموصل قبل سنة 330 وتوفي ببغداد سنة 392، عن نحو 65 عاماً. وكان أبوه مملوكاً رومياً لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي"[1].

وقد افتتح الفيروذأبادي ترجمته بقوله: "الإمام الأوحد، البارع المقدم، ذو التصانيف المشهورة الجليلة، والاختراعات العجيبة"[2].

       دخل ابنُ جني مدينة حلب، وكان يزور الشاعرَ المتنبي (303-354هـ) كثيراً، -وكانت دار المتنبي في موقع المدرسة المعروفة اليوم بالمدرسة البهائية، خلف خان الوزير، قرب جامع حلب الكبير، كما حقّق بعضُ الباحثين-.

قال أبو الحسن الطرائفي:

كان أبو الفتح عثمان بن جنيٍ يحضر بحلب عند المتنبي كثيراً، ويناظرُه في شيء من النحو، من غير أن يقرأ عليه شيئاً من شعره أنفةً وإكباراً لنفسه.

وكان المتنبي يقول في أبي الفتح: هذا رجلٌ لا يعرف قدرَه كثيرٌ من الناس.

 وسُئل المتنبي بشيراز عن قوله:

             وكان ابنا عدوٍ كاثراه ... له ياءي حروف أنيسيانِ

فقال: لو كان صديقنا أبو الفتح حاضراً لفسّره[3].

وقد ذكر ابنُ جني لنفسه في إجازة منه للشيخ أحمد بن نصر كتابين في شرح ديوان المتنبي فقال:

"كتابي في تفسير ديوان المتنبي الكبير، وهو ألف ورقةٍ ونيف[4].

وكتابي في تفسير معاني هذا الديوان، وحجمه مئة ورقةٍ وخمسمون ورقةً"[5].

وله:

"كتاب النقض على ابن وكيع في شعر المتنبي وتخطئته"[6].

وكان المتنبي يقول: ابنُ جني أعرفُ بشعري منّي[7].

وقد رثى المتنبيَّ بقصيدةٍ رنانةٍ، منها هذه الأبيات:

غاض القريضُ وأذوتْ نضرةُ الأدبِ ... وصوّحت بعد رىٍ دوحةُ الكتبِ

سلبت ثوب بهاء كنت تلبسه ...            كما تخطف بالخطية السلبِ

ما زلت تصحب في الجلى إذا انشعبت ... قلباً جميعاً وعزماً غير منشعبِ

وقد حلبت لعمري الدهرَ أشطره ...         تمطو بهمة لا وانٍ ولا نصبِ[8]

وتدل هذه القصيدة على علاقةٍ وثقى بينهما.

وقد التحق المتنبي بالأمير سيف الدولة بن حمدان في سنة (337)، ثم فارقه ودخل مصر سنة (346)،[9] ويكون دخول ابن جني حلب ما بين هذين التاريخين.

وجاء في "الموسوعة العربية":  "انتقل أبو الفتح مع شيخه [أبي علي الفارسي] إلى حلب عاصمة بني حمدان، حيث أقام خمس سنوات ارتاد خلالها مجالس العلم والأدب، ولازم مشاهير الشعراء واللغويين، وخاصة المتنبي الذي ربطته به صداقة وثيقة. ثم انتقل مع أستاذه إلى دمشق، ومنها إلى بغداد، حيث قام بتدريس أبناء أخي الحاكم البويهي".

قلت: وكان وفود أبي علي الفارسي إلى حلب سنة (341هـ).

قال ابنُ خلكان في ترجمته: "وأقام بحلب عند سيف الدولة بن حمدان مدة، وكان قدومه عليه في سنة إحدى وأربعين وثلاث مئة"[10].

وحين دخل ابنُ خلكان حلب  قرأ معظم "اللمع" لابن جنّي على الإمام النحوي ابن يعيش الموصلي الأصل (553-643هـ)، وذلك في سنة 627هـ.

ولابن يعيش "شرح التصريف الملوكي لابن جني" ممّا يدل على عنايةٍ بكتبه في هذه المدينة التي دخلها قبل ثلاثة قرون.

وهناك ما يدلُّ على الاهتمام بكتاب "اللمع" في القرن التاسع أيضًا.


[1] الأعلام (4/204) بتصرف.

[2] البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة برقم (216).

[3] معجم الأدباء (4/1588)، وأعاده في (4/1594)، وهنا فسّر ياقوت هذا البيت.

[4] قال الأستاذ إحسان عباس: هو "الفسر" وقد نشرت منه ثلاثة أجزاء بتحقيق غاية في الرداءة وسوء القراءة للنص.

[5] معجم الأدباء (4/1598)

[6] معجم الأدباء (4/1600).

[7] الأعلام (4/204).

[8] انظرها في معجم الأدباء (4/1587-1588).

[9] انظر وفيات الأعيان (1/122).

[10] وفيات الأعيان (2/80).

وسوم: العدد 663