مطلوب من عموم المصريين أن يكونوا «وهيبة»!
الاعتذار مقدم ابتداء إلى كل من اسمها «وهيبة»، وهو الإسم الذي انقرض في بلاد المشرق العربي، لتحل محله «سالي»، وإن ظل منتشراً في المغرب العربي. وأخص بالاعتذار الإعلامية «وهيبة بوحلايس»، التي اكتشفت عند تذكري للاسم «وهيبة» أنني لم أعد أراها على شاشة «الجزيرة» تقدم نشرة الأحوال الجوية، التي لم أهتم بها أبداً، إلا قبل زيارتي اليتيمة في شتاء عام 2009 لمدينة الضباب، فعكفت على الاهتمام بفقرة الأرصاد الجوية، وكان طبيعياً أن أشير إلى «بوحلايس»، في كتابي «لا أحد يكح في لندن»، الذي لم ير النور حتى الآن!
كثير من المصريين لا يهتمون بما يذاع على شاشات الفضائيات عن أحوال الطقس، لأن هيئة الأرصاد الجوية في مصر، بحكم السوابق، ليست لها سمعة جيدة في نفوس أبناء جيلي، والأجيال السابقة، التي كانت تتعامل مع سوء الطقس على أنه عمل من تدابير الحكومات، لهذا فإنها تمتنع عن الإعلان عنه قبل وقوعه، لكني أقدمت على فقرة «أخبار الطقس» بـ «الجزيرة»، التي كانت نجمتها «وهيبة بوحلايس»، التي اختفت الآن وظهر جيل جديد هو من يقدم النشرة الجوية.
عندما هممت بكتابة اسم «وهيبة بوحلايس» في كتابي المشار إليه بحثت عن معلومات عنها عبر الانترنت، فعلمت أنها جزائرية، ولهذا فهمت لماذا اسمها «وهيبة» وهو الاسم القديم الذي انقرض في المحروسة، فقد حدث تطور، ليصبح المطلوب من الضحية أن يطلق على نفسه اسم امرأة، أي اسم، فقد انتهى زمن «وهيبة»، وصرنا في زمن «سالي.
وهناك قصيدة معروفة للشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، مطلعها «تحت الشجر يا وهيبة ياما كلنا برتقال»، وقد ذكر الشيخ عبد الحميد كشك في أحد خطبه، أن الأبنودي سجن معه في الستينيات من القرن الماضي، وبدا مكلوماً لأنه قدم انجازات هائلة وخدمات جليلة لمصر لم تفده ولم تحول دون سجنه، ولما سأله الشيخ عن شخصه والانجازات التي قدمها للوطن، تعجب الأبنودي لأن كشك لا يعرفه، والذي رد الأمر إلى كف البصر، وقد كان الشيخ كشك ضريراً، فأشار له بأن العتب على النظر، ليفاجئه الأبنودي بأهم انجازاته الوطنية بقوله: «أنا صاحب أغنية تحت الشجر يا وهيبة»!
هذه الرواية كانت في خطبة ألقيت قبل سنة 1981، لأنه في سبتمبر/أيلول من ذاك العام اعتقل السادات الشيخ عبد الحميد كشك، والذي خرج من السجن ممنوعاً من الخطابة، إلى أن تُوفي في سنة 1996، وفي الأسبوع نفسه كتب الأبنودي مقالا يقول فيه إن هناك من أخبره أن أحد الدعاة (لم يسمه) ذكر اسمه في خطبة، وأنه يعلن كذب الرواية لأنه لم يسجن معه.
يمارسان الحب ويأكلان برتقال
ومهما يكن، فقد كانت «وهيبة» اسماً شائعاً لدى الأجيال القديمة، ويمثل عملية إلهام لشاعر قديم كعبد الرحمن الأبنودي، الذي استدعى ذكرياته مع «وهيبة» عندما كانا تحت الشجر يأكلان برتقال، وفي زمانه لم تكن مصر قد عرفت «البرتقال أبو صرة»، وتعلمون أن البرتقال البلدي ليس سهلاً تقشيره، ولكم أن تعلموا حجم المعاناة، عندما كانت «وهيبة» و»عبد الرحمن» يمارسان الحب، ويتعاملان مع «البرتقال»!
ولان اسم «وهيبة» كان في زمانه منتشراً، فلم يكن غريباً أن يطلب الضابط من ضحيته أن يختار لنفسه اسمها، فهي في النهاية امرأة، ولا أعرف لماذا عندما وجدت رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة المصرية سابقاً، يتراجع مقهوراً عن تصريحات سابقة له بخصوص جزيرتي «تيران» و»صنافير»، كان المقابل لوصفي السابق له بالشجاع اسم «وهيبة»، هل لأنه وهو الذي تجاوز الثمانين من عمره من جيل خالدة الذكر «وهيبة»؟!
الرجل خرج من الخدمة العسكرية برتبة «لواء»، وقد خدم ضابطاً صغيراً في الجزيرتين، وبعد خروجه للتقاعد عمل محافظاً لجنوب سيناء، حيث تتبعها الجزيرتان، ولأننا شاهدنا ما يسيء للجيش المصري، بالسكوت على التنازل المهين الذي أقدم عليه «عبد الفتاح السيسي»، فقد اعتبرنا إعلانه عن أن الجزيرتين مصريتان مئة في المئة (هكذا قال) شجاعة يستحق أن نحييه عليها ورداً لاعتبار الجيش المصري الذي يحرص قائد الانقلاب العسكري على توريطه معه في ممارساته التي تعد خروجاً على الثوابت الوطنية، ومن أول التنازل عن حصة مصر التاريخية من مياه النيل، إلى بيع قطعة من تراب الوطن للسعودية.
البداية كانت في مداخلة هاتفية مع الإعلامي «سيد علي» في برنامج «حضرة المواطن» في قناة «العاصمة»، وقد أشدت بشجاعة الرجل، الذي ينتمي للجيل القديم في القوات المسلحة المصرية، ولأن هذه المداخلة راجت عبر مواقع التواصل الإجتماعي فقد كان طبيعياً أن يكون اللواء عبد المنعم سعيد المحافظ السابق ورئيس هيئة العمليات في القوات المسلحة سابقاً في الأستوديو مع «وائل الأبرشي» في برنامج «العاشرة مساء» على قناة «دريم»، وأعلن أنه عمل في منطقة الجزيرتين بعد تخرجه من الكلية الحربية في الفترة من 1955 إلى 1956، وأنه يؤكد أن الجزيرتين مصريتان مئة في المئة.
قهر الرجال
وكانت المفاجأة التي أوجعت القلوب، أن هذا الجنرال المتقاعد نفسه، بشحمه ولحمه قد ظهر مع إعلامي شاب على قناة «تن» ليتراجع تماماً عن موقفه، ويقبل على نفسه أن يظهر في صورة تدمي القلوب وهو يعلن أن الجزيرتين سعوديتان!
يا لقهر الرجال، فماذا حدث مع الرجل جعله يتراجع حد أن يقول: «أنا وهيبة»؟ هل تعرض لتهديد؟ هل أهين من قبل ضابط من تلاميذه في جهة سيادية يعتمد الشعار الانتهازي الشهير: «ملازم في الخدمة ولا مشير على المعاش»؟ هل كان وهو يعلن أنهما مصريتان مئة في المئة، يتصرف على أنه تجسيد لشرف العسكرية، وبعد ما جرى له أيقن ساعتها أن هذا الانقلاب لا يقيم اعتباراً لمن هم في رتبته وتاريخه العسكري، ومن هنا قبل على نفسه أن يظهر أمام الرأي العام مهاناً ليعلن أن ملكية الجزيرتين للسعودية، وللتهوين من أمرهما قال إنها جزيرة صغيرة، متخلياً عن شرف العسكرية في لحظة انهيار نفسي، وفي عقيدة الجيوش أن شبراً من تراب الوطن يساوي الوطن كله؟!
من الواضح أن اللقاء الأخير تم بترتيب من الجهة التي دفعت اللواء رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة السابق للتراجع، وكان أمامه أن يلوذ بالصمت ولا يبدو بهذا الشكل، فما هي حجم الاهانة التي تلقاها الرجل تضاءل أمامها أن يقبل ظهوره متراجعاً ومنبطحاً، وربما ساعتها سقطت في ذهنه قيم كثيرة وتذكر تاريخا في تعامل العسكريين مع بعضهم البعض، هل تذكر في هذه اللحظة كيف صفع عسكري في الجيش اللواء محمد نجيب على وجهه عندما صدر قرار من تلاميذه في حركة ما يسمى بالضباط الأحرار بعزله من منصب رئيس الجمهورية، وفرض الإقامة الجبرية عليه وهو اللواء، وكان أعلى رتبة فيهم «رائد»؟ أم أنه تم توجيهه بمجرد «الأمر العسكري»، فوقف على أن صدور هذا الأمر ممن لا يجوز له إصداره لمن في سنه ومقامه العسكري، يغني عن أي تصريح؟!
لمصلحة من هذه الصورة التي ظهر عليها لواء بالقوات المسلحة المصرية أمام الرأي العام، وما هو الدافع الذي يجعل عبد الفتاح السيسي يحرص على أن يبدو المشهد المصري كله منبطحاً، وأن تعن الوجوه فلا يسمع حتى همساً!
لقد قال «وائل الإبراشي» في برنامجه على قناة «دريم» إن اللواء تعرض لضغوط دفعته للتراجع عن أقواله السابقة، فما هي هذه الضغوط، ولماذا؟ وأيهما أخطر على سمعة الجيش المصري ظهور اللواء رئيس هيئة العمليات السابق، في صورة المختلف أم ظهوره في صورة المنبطح؟
الخوف من الأشرار
لقد حشد الإنقلاب العسكري أذرعه الإعلامية لترديد نغمة واحدة وهي أن الجزيرتين سعوديتان، وهو إجماع لم يخرج عنه سوى إبراهيم عيسى، الذي «يلت ويفت» في برنامجه على قناة «القاهرة والناس»، في الشكل وليس في الموضوع، ومع عنصر المفاجأة دون تمهيد الأجواء، وهي طريقة في النقد حفظناها، منذ أيام مبارك من قبل البعض الذي يريد أن يقدم نفسه ليكون من «أهل البيت الرئاسي» وباعتباره أفضل للرئيس من رجاله، لكن السيسي في لقائه التلفزيوني الأخير أكد أنه وليس رجاله من يقرر وأنه لم يمهد لقراره خوفا من الأشرار ومن حدوث أزمة يقوم بها البعض تحول دون إعطاء الحق لأصحابه.
لقد شاهدنا أداءً إعلاميا في الدفاع عن «الحق السعودي» يجعل من يشاهده دون دراية يعتقد أن الإعلاميين المصريين حصلوا على الجنسية السعودية أو أنهم سعوديون أباً عن جد، فما هو المبرر والاحتشاد على هذا النحو لأن يقهر اللواء عبد المنعم سعيد حتى يظهر في هذه الحالة المزرية؟!
إنه السيسي الذي أخذ أجهزة الدولة كلها رهائن في معاركه، فهو بنفسه وفي لقائه سالف الذكر ورط الجيش والمخابرات العامة ووزارة الخارجية في الجريمة ليقول إنه ليس وحده، ولكن معه كل هؤلاء، وإن على كل هؤلاء أن يدافعوا عن قراره في مواجهة الرافضين له ومن دعوا للتظاهر ومن دعوا لإسقاطه فكلهم في الهواء سواء.
إنها أزمة حكم يريد لمصر كلها أن تكون «وهيبة»!
وسوم: العدد 664