صياد الأرواح
صنف د. أحمد عكاشة الاكتئاب بصفته أكبر ثاني مرض في العالم، ويبلغ عدد المصابين به في مصر أكثر من مليون ونصف مليون إنسان، بينما يعاني منه في العالم خمسمائة مليون نسمة. والاكتئاب حصيلة تفاعل معقد بين عوامل اجتماعية ونفسية وبيولوجية ( بعضها وراثي) تؤدي في تفاعلها للشعور بالتشاؤم، واليأس، والاستغراق في نوبات حزن تطول أو تقصر والعجز عن العمل والاحساس بالانهاك المستمر وغير ذلك. والمؤكد أن الاكتئاب يصطاد أرواح ضحاياه من بين أصحاب النفوس المرهفة، لذلك أمسى " بروزاك" العقار الشهير المضاد للاكتئاب صديقا دائما للشعراء والكتاب والفنانين. قيل إن الاكتئاب قاد سعاد حسني للانتحار، وخيم فترة على روح صلاح جاهين، ومن قبل سقطت مي زيادة صريعة لذلك المرض، وعبد الرحمن شكري،وصلاح عبد الصبور، بل إن تحليل شخصية عمر الحمزاوي في رواية الشحاذ يؤكد تعرض نجيب محفوظ لهذه الحالة التي وصفها محفوظ بدقة شخص خبر الحالة بنفسه. وشهد تاريخ الأدب العالمي حالات مماثلة أشهرها: كاتب القصة العبقري إدجار آلان بو، وموباسان، وجوجول الروسي، وألبير كامو، وأرنست همنجواى الذي تلقى علاجا نفسيا طويلا قبل انتحاره، والرسام فان جوخ ، والموسيقار العالمي شتراوس والموسيقار رحمانينوف الذي أهدى أجمل مقطوعاته الموسيقية إلي طبيبه المعالج . وقد بينت إحدى التجارب العلمية التي أجريت على مجموعة من المبدعين أن 74% منهم مصابون باكتئاب، مما دفع البعض للقول بأن ثمة صلة وثيقة بين الابداع والاضطراب النفسي. لكن دراسات أخرى تؤكد شيئا آخر، أن نسبة المصابين بذلك المرض بين المبدعين لا تزيد عن نسبتها بين الناس غير المبدعين، ووفقا لدراسة قام بها " هافيلوك آليس" يتضح أن عدد من يوصف بالمرضى - ألف حالة مبدعة - لا يتجاوز 44 شخصا أي بنسبة أقل من خمسة بالمئة. ويمضي د. عبد الستار إبراهيم أبعد من ذلك في كتابه " الحكمة الضائعة" إذ يؤكد أن المرض النفسي ليس مصدرا للابداع، بل سببا من أسباب عرقلة الابداع، وأن معظم الأدباء العظام كتبوا أفضل أعمالهم وهم في أفضل صحة نفسية، بل إن الاستغراق في النشاط الإبداعي هو بحد ذاته علاج نفسي. بهذا الصدد أتذكر ما كتبه جراهام جرين من أن " الكتابة أسلوب من أساليب العلاج". لكن يظل الاكتئاب صياد أرواح يسعى لاصطياد أرواح الفنانين، وأرواح غيرهم، وإذا كان المبدعون يستطيعون أن يجدوا شفاءهم في الابداع، فما الذي يملكه لنفسه مواطن بسيط؟ ليس مبدعا؟ لكنه سقط صريعا بيدي الاكتئاب، صياد الأرواح، القاتل الخفي، غير المرئي، الذي يغير كيمياء المخ، ويسري سرا إلي الأعصاب والبدن؟. في قصته " الراهب الأسود " قال الكاتب العظيم أنطون تشيخوف عن اقتراب شخصية قصته من حافة الجنون" تحركت ذرات في المخ"، وكان ذلك مذهلا علميا وأدبيا حينذاك. تتحرك ذرات كثيرة لأسباب مركبة، اجتماعية ونفسية وبيولوجية، وعادة ما يصف الأطباء الحبوب والأدوية لمحاصرة ما هو بيولوجي ونفسي، لكن أحدا لا يصف دواء ناجعا للأسباب الاجتماعية الكثيرة التي يمشي في عتمتها صياد الأرواح، ليطلق سهامه في الليل على الأرواح التي تتألم مما يجرى حولها.
وسوم: العدد 666