الإسلام في أفريقيا الحلقة (17)

قاضي القيروان

أبو كريب جميل بن كريب المعافري

عدّه أهل زمانه من أهل الفضل والعلم، وقالوا عنه إنه من أجلاء شيوخ إفريقية، وسكن تونس.

أشخص إلى مدينة القيروان بأمر بعض ولاة إفريقية، وولاه على قضائها بعد امتناعه منه وكراهيته فيه، قيل إن هذا الوالي هو يزيد بن حاتم، وقيل إنه أخوه روح، وقيل عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع، وهو الصواب.

كان أبو كريب حسن السيرة في قضائه، ولم يزل على ذلك حتى قتله الخوارج بوادي أبي كريب في ناحية الحبلي من ناحية القيروان سنة (139هـ/756م).

وروي عن جميل بن كريب، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شرب بزقة من خمرة فاجلدوه ثمانين)).

فضل أبي كريب ومناقبه

حدّث أحمد بن بهلول الزيات أن يزيد بن حاتم، وهو يومئذ أمير إفريقية، بعث إلى والي تونس يقول له: ابعث إليَّ بأبي كريب أوليه القضاء. قال: فتمارض أبو كريب، فكتب والي تونس إلى الأمير إن أبا كريب مريض، فكتب إليه يزيد: أن ابعث إلي به في قطيفة. فبعث والي تونس بأبي كريب، فلما قدم على يزيد كلمه فلم يرد عليه جواباً، ثم كلمه الأمير وأبو كريب ساكت فأنبه جُلاّس يزيد فقالوا: الأمير يكلمك وأنت صامت؟ فقام الأمير يزيد على قدميه وأمر جُلاّسه أن يتفرقوا عنه، وجعل يقول له: والله يا أبا كريب ما أردت إلا الله عز وجل، وأن أجعلك حسنةً بيني وبين الله عز وجل للمسلمين، وتكون لي عوناً على هذا الأمر، وتحكم بالحق عليَّ وعلى من حولي، فاتّق الله عز وجل فيما دعوتك إليه من القيام بالحق فيَّ وفي المسلمين. فقال له أبو كريب: ألله عز وجل أردت بذلك؟ فقال: نعم.. فكررها عليه ثلاثاً، فقال: نعم.. فقال أبو كريب: قد قبلت.

 وجلس أبو كريب في جامع القيروان يحكم بين الناس، فما مرت إلا أيام يسيرة حتى أتاه رجل فقال: أصلح الله القاضي، لي قِبل الأمير حق ومطلب وقفي عنه وقد وقفت له وسألته المجيء إليك فلم يقبل، فأعطاه القاضي طابعاً، ومضى الرجل إلى باب الأمير، فأعلم بذلك الأمير يزيد، وقيل: بل مضى معه أبو كريب بنفسه إلى باب الأمير يزيد، فقال للحاجب: أعلم الأمير بمكاني. إن هذا الرجل يذكر أن له حقاً قِبله، فأعلمه الحاجب، فلبس يزيد ثيابه وخرج إلى الجامع، فادعى الخصم على الأمير يزيد بدعوى، فقال أبو كريب ليزيد: (ما تقول فيما ادعاه بحضرتك؟) فأنكر يزيد دعواه، فطلب خصمه يمينه، فاستحلفه أبو كريب فأبى يزيد أن يحلف، فقال له أبو كريب: إني أحكم عليك بنكولك عن اليمين.. فأنصفه يزيد من دعواه، ثم انصرف يزيد وهو يقول: الحمد لله الذي لم أمت حتى جعلت بيني وبين الله عز وجل من يحكم بين عباده بالحق، فقال أبو كريب: وأنا أقول الحمد لله الذي لم أمت حتى رأيت أميراً يشكر الله عز وجل بالقضاء بالحق عليه. وكان أبو كريب متواضعا يركب الحمار (بشند) ورسنه حبل ليف. ويُحكى أنه مر يوماً بمدينة القيروان ببئر أم عياض فعرض له خصمان فنزل عن حماره وقعد إلى حائط ونظر بينهما فيما اختصما فيه. ثم قام ليركب فأراد أحدهما أن يمسك برسن الحمار حتى يركب فمنعه أبو كريب من ذلك وأمسكه هو لنفسه. وهذا من محاسبته لنفسه واجتهاده. وقيل: أقبل غوث بن سليمان القاضي، وهو يريد المسجد، فلما كان عند السراجين لقيته امرأة في محفتها، كما قدمت من الريف، فشكت مظلمة فنزل في حانوت من حوانيت السراجين، كما هو ولم يبلغ المسجد، وكتب لها بحاجتها، ثم ركب دابته إلى المسجد فانصرفت المرأة وهي تقول: أصابت والله أمك حين سمتك (غوثا)، فأنت والله غوث عند اسمك.

كان أبو كريب - وهو قاض بالقيروان - إذا أراد أن يتوجه إلى الجامع ساق حماره بين يديه، وإذا انصرف من الجامع ركبه منصرفا، فربما لقيه في مسيره إلى الجامع بعض الناس وهو يخوض الطين إلى أنصاف ساقيه، فيقال له: لو ركبت الحمار ؟ فيقول: لا أفعل، هكذا حال من يسير إلى ربه عز وجل، يسير ذليلا متواضعا.

وكثيراً ما كان أبو كريب يجلس في الجامع وحده، فيقال له: أتقعد وحدك ؟ فيقول: إن الناس قد ذهبوا إلى جنازة، فيقال له: لو أنك انصرفت إلى دارك ! فيقول: ومن لي بالملهوف المضطر إذا قصدني فلم يجدني ؟.

قال أحمد بن بهلول الزيات: وكان - يقصد أبا كريب - ربما تبين له الحكم بالليل، فيأتي دار من ثبت الحق له، فيقرع عليه بابه فيستخرجه ويأمره بأن يحضر له صالحي جيرانه ليشهدهم له، فيقول له: (لو تركت هذا إلى الغد !) فيقول القاضي: (فلو مت أنا في ليلتي هذه، أما أكون أنا الذي أضعت عليك حقك؟).

وفي أيام أبي كريب وهو قاض في القيروان نشب قتال بين إلياس بن حبيب وابن أخيه حبيب بن عبد الرحمن الذي ثار عليه لقتله أباه سنة (137هـ/754م)، وتمكن حبيب من قتل عمه سنة (138هـ/755م) في مبارزة ضارية بينهما، وحز رأسه وأمر برفعه على رمح، وأقبل به إلى القيروان فدخلها وبين يديه رأس عمه ورؤوس أصحابه.

وانتهى أمر بني حبيب إلى فوضى محزنة، فقد هرب عم حبيب عبد الوارث بن حبيب حين خافه على نفسه فهرب مع بعض أنصاره إلى قبيلة ورفوجة الزناتية خوفا من ابن أخيه حبيب بن عبد الرحمن واستغاث برئيسها عاصم بن جميل وكان خارجياً صفرياً، فخرج عاصم بن جميل وقومه إلى القيروان وخرج للقائهم حبيب بن عبد الرحمن فانهزم وفر، وبقي أهل القيروان يقودهم قاضيها أبو كريب يدفعون الخوارج الصفرية عن بلدهم الذين كانوا يستحلون دماء المسلمين، وخاض أبو كريب معركة غير متكافئة إلى أن سقط شهيداً مع ما يزيد على ألف من علماء ومحدثي وفقهاء القيروان وشجعانها.

رحم الله القاضي المجاهد أبا كريب وجزاه عن المسلمين كل خير، فقد كان خير قاضٍ وأنبل مجاهد.

ودخل الصفرية القيروان فاستحلوا المحارم وارتكبوا الكبائر، ونزل عاصم بن جميل بمصلى روح بن حاتم. واستباحوا القيروان وقتلوا كثيرا من القرشيين وربطوا دوابهم في جامع القيروان إعلانا لاحتقارهم للسنة وأهلها.

وسوم: العدد 671