دفاعاً عن تركية الركيزة والدور، ثلاث خطايا استراتيجية في السياسة التركية
وقبل أن يقفز في وجهي أصحاب العقول العاطفية ، التي ترى أن من حق المحب على المحبوب ، أن يدغدغه ويتلمقه ويتغزل بمحاسنه ومفاتنه ويعدد سجاياه ومناقبه ويذكر أياديه ونعمائه ؛ أشهر في وجوه هؤلاء جميعا بطاقتي الخضراء بأنني أحب تركية ، ماضيها وحاضرها ، قيادتها وشعبها ، برها وبحرها أكثر مما تحبون ، وأبعد مما تتصورون ؛ ولكن يبقى فرق سجله الحكماء والعلماء والمفكرون بين المحب الناصح والمحب المتملق وقد قال مولانا في كتابه العزيز (( .. وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ )) ...
وقبل أن أغرق في ذكر الخطايا أو الخطيئات لا بد أن أقرر ما قرر الشاعر العربي من قبل : ( كفى المرء نبلا أن تعد معايبه ) فما يذكر من خطايا ارتكبتها القيادة التركية على خطورتها وأهميتها ، لا تلغي التقدمات العظيمة التي قدمها الشعب التركي والقيادة والحكومة التركية للشعب السوري وللسوريين وغير السوريين من أياد بيضاء على كل المستويات وأخص بالذكر المستوى الإنساني ، ستظل هذه التقدمات دينا في أعناق السوريين على مدى الدهر ...
وما سأشير إليه في سياق التحليل والتقرير ينطلق اليوم من واقع ما آل إليه الواقع التركي ، وما يحيط به من مهددات ، نتيجة التغير الجيوسياسي الذي يضرب المنطقة في الجوارين الشرقي والجنوبي في كل من العراق وسورية على السواء . ليس قائدا محنكا من يعامل الحريق في بيت جاره ، على أنه حريق في بيت جاره وليس في بيته . والقيادة التركية التي ما تزال تتعامل مع ما يجري على أرض جيرانها على أنه شأن خارجي يراقبها كل العالم اليوم ، وهي تتلجلج في شباك واقع جديد استهدافه لتركية : أرضها ، وشعبها ، وسيادتها ، وقيادتها ، وتجربتها الحضارية ، ومشروعها التنموي ، ليس أقل خطرا منه على سورية والعراق وكل دول الإقليم ..
الدولة التركية بالتعبير الاستراتيجي هي الدولة الأقرب إلى الفضاء السوري والعراقي جغرافيا، وبشريا ، وثقافيا ، وتاريخيا ، فقبل أقل من مائة عام فقط كانت هذه الدول ، أو هذه الجغرافيا والديمغرافيا ، جزء أساسيا من الدولة الجامعة التي قادها الأتراك العثمانيون ، والتي كانت تحكم هذه الأرض وتحمي وتصون وتدافع عن هذه الشعوب .
وإليكم اليوم المفارقة العجيبة التي صنعتها سياسة الأحباب من القادة الأتراك : وبينما يتحرك على الأرض السورية اليوم قوى تابعة لما يقرب من عشر دول هي إيران لدود الأتراك التاريخي ، وروسيا الدولة التي كان لها الدور الأكبر في تقويض دولتهم الكبرى ، ولبنان بزعنفته الصغيرة التي ما كان لها أن ترفع رأسها أمام أهل القصير أو القلمون لو دافع الأتراك عن مصالحهم ، ثم الولايات المتحدة التي يعترف رئيسها أن قواته تتحرك وتدرب وتقاتل على الأرض السورية ، ثم كندا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا ؛ نقول بينما تزج هذه الدول جميعا قوى حية ، وجنودا مجندة على الأرض السورية ، تدعيما لكيان أسدي أعلن زعيمه أنه سيطحن الزعيم التركي أردوغان في حلب ، وتأسيسا لكيان جديد يهدد تركية في وحدة أرضها وشعبها ، ما يزال الأتراك يلطمون على طريقة الأرامل كل يوم بتصريح مثير للرثاء جديد .
لنستمع السيد يلدرم رئيس الوزراء التركي الجديد مع الاحترام يتحدث بلغة الشعوب المستضعفة ( سنقاوم بكل ما أوتينا من قوة ..) هذه اللغة التي يتحدث بها ثائر مستضعف في سورية والعراق وفلسطين بينما المنتظر من القائد السياسي في مثل هذا المقام أن يقول : ( لن نقبل وسنسقط كل محاولة للنيل من وحدة أرضنا وشعبنا مهما تكن التكلفة والتضحيات ...) ليبقى سؤالنا المفتوح : فما الذي أوصل الوضع السياسي في تركية إلى ما هو عليه بحيث تحول الأمل إلى ألم ، وتحول عبد المعين إلى موضع الشفقة المستحق للعون ...
كانت الخطيئة التركية الأولى : ضعف روح المبادرة عند القيادة التركية...
خطيئة عايناها وعايشنها وعشنها ودفع السوريون والعراقيون ثمنها واليوم وصل الدور للأتراك ليدفعوا الثمن نفسه . وإليكم برهان ما أقول ، وأعلم أنكم ستسبقوني بالقول : هل تريد من تركية أن تدخل الحرب عن السوريين ، وتدمر مشروعها من أجل سورية والسوريين ؟! وسيجيبكم الإيراني نفسه على هذا الاعتراض : إن إيران تدافع عن وجودها بالقتال في سورية !! وحزب الله وحسن نصر الله ( نحن ندافع عن لبنان بالقتال في سورية ) ، تركية وحدها هي التي لم تدافع عن وجودها بالقتال في سورية ، ولذا وجب عليها اليوم أن تقاتل على الأرض التركية فقد وصلت النار إلى عقر الدار وقعرها.
بمبادرة جادة حقيقية منذ بين العامين 2011 – 2012 كان بإمكان القيادة التركية أن تغير المشهد في المنطقة وتداعياته . كان بإمكانها أن تحقن الكثير من الدماء وأن تلجم الكثير من النوازع ، وأن تضع حدا لكل هذه التدخلات والتماديات ، ولكن القيادة التركية فقدت روح المبادرة ، وفي المبادرة دائما حظ غير قليل من المغامرة ، رفضت القيادة التركية مع الأسف تحمل تبعاتها ، كما فعل الإيرانيون وحزب الله بل حتى الروس والأمريكيون ..
وكانت الخطيئة الثانية للقيادة التركية :
ثقة هذه القيادة الزائدة بالولايات المتحدة ، وبالناتو ، وقرارها المسبق البقاء تحت السقف الأممي والسقف الأمريكي بشكل خاص ، وعجزها عن استشراف النوايا الأمريكية المبيتة للتآمر على المنطقة ، بما فيه التآمر على تركية نفسها . واليوم وإذ تتكشف تركية أن الإدارة الأمريكية والناتو يستهدفونها صراحة كما يستهدفون شعب سورية وشعب العراق وكل شعوب المنطقة ، تدرك أنها وقعت في الفخ الذي وقع فيه من قبل الثور الأحمر ولات ساعة مندم .
تعقد الولايات المتحدة والناتو اليوم حلفا محليا مع أعداء تركية ( البي كيه كيه ) و( البي يه ده ) أوثق من حلفهم مع الحكومة التركية صاحبة القوة العسكرية الثانية في الناتو .
الولايات المتحدة اليوم وحلفاؤها السبعة يقاتلون متحالفين مع أعداء تركية ( الإرهابيين ) الذين يفجرون ، كل يوم في تركية ويسفكون دماء الشعب التركي . الولايات المتحدة وحلفاؤها يسلحون هؤلاء الإرهابيين ويدربونهم ويخططون لهم ، ويقودون تحركاتهم . لا أحد من أهل السياسة يشك أن ( حزب العمال الكردستاني ) بقيادة أوجلان بفرعيه التركي والسوري هو اليوم حليف أول ووحيد للولايات المتحدة على الأرضين السورية والتركية إذا استثنيا بالطبع حليفها الإيراني صاحب الامتياز الموازي لحليفها الصهيوني .
هذا التحالف الجديد والخطير هو ثمرة مباشرة للسياسات التركية على مدى السنوات الخمس الماضية ، السياسات التي نامت في الحضن الأمريكي طويلا ، أو بعبارة أكثر دقة التي لم تقاوم هذه السياسات بالطريقة الأمثل ، ولم تتمرد عليها في الوقت والأنسب .
والخطيئة الثالثة ...
ومع أن الولايات المتحدة ، وروسية ، استطاعتا خلال السنوات الخمس أن تصطفي ذراعا عسكريا بشريا تقاتل من خلاله من ورائه تحت عنوان ( قوات سورية الديمقراطية ) ، وهي في حقيقتها قوات عنصرية طائفية شيفونية معادية للأتراك وللسوريين على السواء ؛ نقول مع أن روسية والولايات المتحدة استطاعت أن تستنبت قوى وأن توجد شركاء وحلفاء ؛ عجزت القيادة التركية مع قرب الدار ، ووحدة المشرب ، وحميا العواطف ، وتقارب القلوب أن تصطفي قوة بشرية ، تتبناها وتغذيها وتنميها . الأمريكيون نجحوا والروس نجحوا وقاسم سليماني نجح ؛ ولكن القيادة التركية مع الأسف لم تنجح ....
ليس هناك فصيل سوري واحد يمكن أن يقال إنه فصيل معتمد من قبل تركية . الاستراتيجية التركية التي اعتمدت سياسة التعامل مع الكل خسرت عمليا الكل ، وكانت هذه إحدى الخطايا الكبرى...
نحن لا ننكر أن الحراك الشعبي العفوي في سورية ينقصه الكثير ، ليكون كفؤا لتحالف سياسي مع دولة في حجم تركية . ولكن كان بإمكان القيادة التركية أن تساعد قوى حقيقية ، وتعيد جمع قواها ، وتنظيم صفوفها وتوحيد قيادتها ، وتدريبها كما دربت الولايات المتحدة ، وتبنيها كما تبنت الولايات المتحدة ، وتقديم مستشار عسكري لها ، وتضع غرفة عمليات تقنية في خدمتها ، مثلما قدمت روسية و إيران للحكومة العراقية قاسم سليماني مستشارا وللحكومة السورية الشمخاني مستشار ...
بشار الأسد يزعم أن أردوغان يدعم جماعة الإخوان المسلمين في سورية وفي حلب بالذات وأنه سيخرجهم ويخرجه منها ...
وحين يسمع الإخوان المسلمون مثل هذا الكلام ينادون مع إخوانهم السوريين : ما لنا غيرك يا الله ...
قدر تركية بشعبها وقيادتها أن تكون ركيزة الأمة في هذه المرحلة التاريخية من تاريخ الأمة حيث تكالبت كل الأمم على دين هذه الأمة وشعوبها وهديتنا للقيادة التركية قول أبي الطيب المتنبي :
لولا المشقة ساد الناس كلهم ...الجود يفقر والإقدام قتال
وفي كل يوم نسمع عن مقتل جنرال إيراني على الأرض السورية ..لا نظنه جاء ليقرأ الفاتحة على المراقد المقدسة
حمى الله تركية من أعدائها وأيد قيادتها ، ووفقها للخير وسدد على طريق الحق خطاها ..
وسوم: العدد 672