الحُريَّة

بفضل الله انزاحت تلك الغمامة أخيراً, وتتابعت الإفراجات إلى أن جاء دوري في 13 كانون أول 1995 , أي قبل إتمام خمسة عشر عاماً على سجني بشهر واحد.

لم أصدق ذلك اليوم.. يوم الحرية, ما أغلاها من كلمة وما أحلاها.

.... بعد عودتي ولعدة أشهرٍ لم نذكر اسم صلاح رحمه الله, لا أنا ولا والدي, وكنا نتجنب هذا الحديث, خوفاً منا كلٌّ على شعور الآخر.. إلى يوم جاءني فيه أبي, وكان التوتر بادياً على وجهه, وغريباً في مشيته وحركته, وكأنه قد استجمع قواه لهذا السؤال وقال بصيغة شديدة الاختصار وكأنه يتماسك ويتهيأ لسماع ما يخشاه:

هل أقرأ القرآن لأخيك صلاح؟

ما زلت أذكر ذلك الموقف وما كان أقساهُ على قلبي...

أحسستُ بالحقيقة الرهيبة تتجسد أمامي.. ربما نسيتها أو تناسيتها بعض الوقت, وها هو ذا أبي يُعيدها إلى الحضور, هذه هي اللحظة الحرجة التي كنت أخشاها منذ ثلاثة عشر عاماً.. منذ استشهاد صلاح عام 1983م.. كنت أعلم أني سوف أسأل يوماً ما هذا السؤال الصعب... لم أستطع الإجابة فوراً... أردتُ أن أقول لأبي لاتحزن صلاح شهيد.. وقضاء الله قد وقع, ولكن تجمدت الحروف على لساني.

كان يؤلمني أن أرى أمي تعيش مع الأوهام والانتظار الزائف, والناس يعللونها بالأمل الكاذب, ولكني فضَّلتُ أن تبقى هي على ذلك لأني أعرف يقيناً أنها لن تحتمل الحقيقة كأم.. ولكن يجب أن يعرف أبي الحقيقة... قررت الإجابة.. أطرقتُ برأسي ملياً, انحبس صوتي, وانهمرت دموعي الصامتة, وقلت بصوت خافت: نعم يا أبي اقرأ له القرآن..

هزَّ برأسه وكأنه يعلم الجواب سلفاً, وانصرف فوراً بدون أي تعليق أو مزيد من الأسئلة.. متى؟ وأين؟ وكيف؟.. إذ كان واضحاً أنه لايستطيع الاستمرار في الحديث.. ولم نعد نتطرق لذكر أخي بعد ذلك اليوم إلا عابراً, ولم يحاول أبي أبدا أن يعرف التفاصيل.

نعم خرجت إلى الدنيا بعد أن يئست وظننت أن نهايتي ستكون هناك بين جدران السجن, وشاهدت الموت يحوم فوق رأسي المئات من المرات, ولم يبقَ بيني وبين حبل المشنقة إلا ذراع, ولكن القدر لم يأذن وكان في الأجل بقية..

كنت أتأمل في وجوه الناس السائرين في الطرقات, كلٌّ يمشي إلى حاجته وأمره.. وأتساءل هل يشعر بي أحد, هل لفتُّ نظر أحدٍ في الطريق؟ هل يعلم أحدٌ ما عانيته لمدة خمسة عشر عاماً؟.. هل يعلمون أني مثل أصحاب الكهف الذين عادوا إلى الحياة بعد سبات طويل؟ ولكن لم يلتفت إليَّ أحد!

أو هكذا كانت تمضي الحياة! خمسة عشر عاماً كنا نواجه فيها الأهوال والموت بأشرس أشكاله.. وإخواننا يعلقون على المشانق, ولم يشعر أو يحس بنا أحد... الناس يلهثون وراء حطام الدنيا ونحن نموت في صمت!

ياترى هل أنا الآن في حلم, أم ذاك الذي كنت فيه هو الحلم, حلمٌ مخيفٌ رهيب.. هل أصدق أني أرى الدنيا والناس من جديد, هل أنا حرٌّ طليق وخرجت فعلاً من ذلك القبر.. أجوب نظري في السماء من غير قضبان, وأشمُّ الهواء الطلق ملء صدري, وأطلق بصري إلى الأفق البعيد, وأمشي بشكل طبيعي وأرفع رأسي دونما خوف, وأتكلم بصوت مسموع وليس همساً,  وأستحمُّ بالماء الساخن وأشرب الماء البارد الزلال, وآكل الطعام النظيف, وأركب السيارة وأشاهد التلفزيون! .. أبسط الأمور كنت أراها ممتعة, وتفكرت كم من نعمة نحن محفوفون بها ولا نقدر قيمتها ولا نؤدي شكرها..

أوهكذا مضتْ الخمسة عشر عاماً وكأن شيئاً لم يكن!.. كل شيء ذهب وصار من التاريخ.. الألم والعذاب والخوف.. ولكن بقي في القلب حرقة وفي النفس غصة.

خمسة عشر عاماً مضت لا نعرف كوب الشاي الساخن في الشتاء, ولا الماء البارد في الصيف.

خمسة عشر عاماً لم نعرف فيها دفء المواقد في الشتاء ولا النسيم العليل في الصيف.

خمسة عشر عاماً نفترش الأرض ببساط رقيق, ونلتحف غطاءاً خشناً كالخيش نتشارك عليه, ونسينا شيئاً اسمه الكرسي أو الأريكة.

خمسة عشر عاماً ننام كعلب السردين متلاصقين, للواحد منا مسافة بعرض عشرة سنتيمترات, وبعملية حسابية بسيطة, توصلنا إلى أن لبنان يسع كل سكان الأرض إذا ناموا بهذه الطريقة!

خمسة عشر عاماً لم نعرف فيها ظلام الليل وهدوأه, فالمصابيح منارة في المهجع على مدار الساعة (للمرا قبة), والحارس يتبختر فوقنا بقرقعة حذائه وسلاحه.

خمسة عشر عاماً من الجوع والطعام الرديء, ننتظر مجيء الخبز كما ينتظر الطفل العيد, ثم نجتمع لنرى كومة الخبز العسكري المدور القاسي التي وصلتنا وحجمها, عسى أن يكون نصيب الواحد أكثر من نصف رغيف ليوم كامل.. وغداؤنا كل يوم البرغل الممزوج بالحصى, حتى كرهت البرغل, وما زلت أكرهه إلى يومي هذا.. أما الطبيخ فكان يصلنا مسلوقاً بشكل سيء أي شبه نيء, والبطاطا بقشورها وترابها.

خمسة عشر عاماً لم يعرف أحد نا كيف صار شكله, ويحاول أن يُعمِل مخيلته وهو يتحرى خياله في طبق الشاي الواسع, أو على سطح قصاصة الأظافر, فلا زجاج ولا مرايا, وكل الذي يعلمه أنه حليق الرأس على الدوام.. وأنا شخصياً تفجأت بنفسي بعد خروجي من السجن, إذ لم أرَ وجهي طيلة خمسة عشر عاماً!

خمسة عشر عاماً لا كتابٌ ولا قلمٌ ولا ورقةٌ ولا مذياعٌ ولا تلفاز.

خمسة عشر عاماً لا نعلم عن دنيا الأنام شيئاً.

خمسة عشر عاماً نسينا فيها أن هناك جنس آخر اسمه الأنثى!

كان الأمر لي أشبه بالمعجزة فهي حياة جديدة, وخرجت لأعيش عمراً جديداً, وسنواتٍ ما كنت أحسب أن أحياها.. وأعادني ربي إلى الدنيا, كما أعاد يونس إلى الدنيا من بطن الحوت, ولكن حوتنا كان أشد ضراوة, لألتقي والدي, وأكملَ دراستي, وأتزوج, ويرزقني الله البنين والبنات, وأمضي في طريقي.. أحمل جرحاً قديماً لا يلتئم, وأحمل ذكرى لا تنسى, عن نجمٍ شاركني طفولتي وشبابي وأحلامي ومحنتي, وكان فارساً بطلاً من أبطال الإسلام, اقتفى آثار خطى الشهداء ابتداءً من سيد الشهداء حمزة ومروراً بشيخ المجاهدين عمر المختار والفدائي سليمان الحلبي والقائد المغوار يوسف العظمة ثم حمزة الخطيب وغياث مطر وطارق الأسود والكثيرين ممن سطروا ولا يزالون يسطرون أعظم ملاحم البطولة والفداء, ورفعوا راية الإسلام عزيزة على مر الدهور, وستبقى كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وسوم: العدد 675