ما بعد رمضان.. مواصلة الرحلة واليقين بنصر الله
في شهر رمضان المبارك الماضي سخر أحد الكتَّاب إياهم من تسميته بشهر الإيمان، وزعم المذكور أنه لا يوجد شهر اسمه شهر الإيمان، وأن هذه التسمية تسمية العوام الذي لا يفقهون الإيمان ولا الكفر، وظل صاحبنا يعزف على هذه المقولة ليفرغ ما في نفسه من بؤس فكري، وانهيار عقلي، وخلل معرفي عبّر عنه ذات يوم حين أنكر الإسراء والمعراج، وزعم أن المسجد الأقصى موجود في الطائف، وأن الصراع مع الغزاة اليهود لأرض فلسطين نوع من «البكش» (الادعاء والهزل).
لو أن المذكور يفهم سياقات اللغة والتعبير، لعرف أن هناك شيئاً اسمه الحذف يدخل التراكيب العربية، فعندما نقول: ذهب الطفل إلى القرآن، فقد اختصرنا التركيب الذي يقول: ذهب الطفل إلى محفّظ القرآن، وشهر الإيمان مختصر لشهر تجديد الإيمان، أو تقوية الإيمان، أو تصحيح الإيمان.. إلخ.
أما إيمان العوام بشهر الإيمان فهذا لا يضيرهم، والعيب فيمن لا يرقى بهم إلى فهم المعاني الكبرى، وتطبيقاتها، إن لدينا تديناً شكلياً أو منقوصاً أو مغشوشاً، وكثرة من المنافقين يظهرون ما لا يبطنون، ويبدون غيرة مزيّفة على الإسلام مع أنهم لا يصلون ولا يصومون ولا يزكون ولا يتصدقون، ويتصورون أنهم يخدعون الناس والله، ولكن الله خادعهم.
لعلكم تتقون
رمضان شهر توهج الروح الإيمانية لدى المسلمين وتنبيه الغافلين، واستدعاء المعاني العظمى في حياة المسلمين وتاريخ الإسلام.
عندما يقول الحق تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183}) (البقرة)، فالغاية من الصيام في شهر رمضان هي التقوى، والتقوى هي لحظة الذروة في تمام الإيمان، حيث إن صاحبها يحقق ما عبر عنه علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
والتقوى هي باب الفلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة، قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً {2}) (الطلاق)، ويقول ابن عباس رضي الله عنه: «والله لو انطبقت السماوات والأرضين لجعل الله للمتقين فتحات للنجاة».
وعندما يقول الحق تبارك وتعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة:185).
نلمس في هذا القول الإلهي غاية رئيسة لشهر الصوم الكريم، وهي هداية الناس للصواب والخير، والتفريق بين الحق والباطل، حيث يسير المسلم على ضوئها إلى غاياته في الدنيا وأمله في الآخرة.
رؤية شاملة
شهر رمضان ليس مقصوراً على فترة زمنية محدودة بثلاثين يوماً أو نحوها، إنه رؤية لحياة المسلم والأمة الإسلامية في المستقبل وعلى امتداد الحياة، حيث ينطلق المسلمون منه لترتيب أوضاعهم الدنيوية من أجل الحياة الخالدة في الآخرة.
بسبب بعض القصور يتوهم نفر من الناس أن رمضان وحده هو الشهر الذي تكثر فيه الصلوات والزكوات والصدقات، ويزداد فيه عمل الخير والتواصل الأسري والإنساني، وبعضهم الآخر من أصحاب التدين الشكلي أو المنقوص أو المغشوش يظنون تحت إلحاح أجهزة الإعلام والدعاية أن شهر رمضان هو شهر السهر أمام التلفزيون أو في الفنادق أو أماكن اللهو الأخرى لمشاهدة المسلسلات البائسة، والأفلام الصاخبة والعروض التي لا تليق بالمسلم عامة ولا رمضان خاصة، والأمر ليس كذلك.
رمضان يؤسس لعام بأكمله بل لأعوام ممتدة بحياة الإنسان كي يكون الاعتقاد خالصاً ونقياً بقوة الحق سبحانه والطاعة له والاستسلام لأوامره ونواهيه، والمثابرة على العبادات والطاعات طوال العمر، واستلهام الشهر الكريم في مجاهدة النفس والاستمرار في السلوك المضيء المتسامح الذي لا يقبل بالهبوط إلى دركات الشهوة وزلات اللسان وآثام التقصير وارتكاب المعاصي، ويمكن أن نقول: إن مجيء رمضان كل عام يثبت الإيمان ويصححه ويجدده على مستوى الفرد المسلم، ويصنع منه كياناً إنسانياً يتوهج باليقين والوعي والعمل الذي يضيف إليه وإلى بقية الناس في مجتمعه.
وحدة المسلمين
ورمضان تمتد آثاره إلى الأمة كلها في بقية الشهور، وفي مقدمة هذه الآثار الشعور بوحدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بل الشعور بوحدة الإنسانية أو البشرية، وهو ما ينسف محاولات بعض خصوم الإسلام في زرع الفرقة بين المسلمين أنفسهم أو بين المسلمين وغيرهم، ويستمر هذا الشعور في الوجدان الإسلامي العام فلا تنال منه دعوات هنا أو نداءات هناك.
يتلاقى المسلمون في رمضان على المستوى الأسري والجماعي والوطني والقومي والإنساني في صور متعددة، بدءاً من لحظة الإفطار حتى يوم العيد مروراً بحلقات العلم ودروس المساجد والاعتكاف والتهجد، وهي تهيئة وتوجيه لما بعد رمضان حيث يظل المسلمون في حالة تماسك وتعاضد وانسجام من أجل العمل لخير الإسلام والأمة.
إن أثر صوم رمضان ليس مقصوراً على الشهر الكريم وحده - كما سبقت الإشارة – لكنه بناء للنفس الإسلامية في علاقتها الخاصة بالحق سبحانه بناء يقوم على الصدق والإخلاص والثقة في الله، إن الالتزام بالامتناع عن الطعام والشراب وإشباع الشهوات؛ فيما بين المسلم وربه، يجعل من الصوم عنصر بناء فعالاً للمجتمع الإسلامي يدفع به للأمام نحو آفاق القوة والعزة والأمل.
الصوم لي
ورد في الحديث القدسي: «عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ» (متفق عليه).
وفي الحديث ما يشير إلى خصوصية الصيام عند رب العزة، واختياره دون سائر العبادات ليكون له جل وعلا: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»؛ فالمسلم محكوم في صيامه بإيمانه وضميره، لا يستطيع أن يرائي به أو يخدع الناس، يصوم والله يراقبه الذي يعلم السر والجهر، لذا فإن المسلم المؤمن الذي يعبر التجربة الرمضانية كما ينبغي يتأهل لحياة جيدة بعد رمضان على المستويات كافة، إنه يمضي في عباداته وعاداته وسلوكه الإنساني مرتبطاً بروح رمضان، يزداد ثقة في الله ثم في نفسه، يعمل وينتج ويتقن العمل والإنتاج، ويستشعر انتماء قوياً ووثيقاً إلى الدائرة الصغيرة المحيطة به «الأسرة»، والدائرة الأوسع «الجماعة والمجتمع والوطن والأمة»، ويتآلف مع الدائرتين عطاء وبذلاً وتضحية وجهداً وجهاداً.
رب رمضان
لقد تخرج المسلم المؤمن من شهر رمضان وهو يعلم أن رب رمضان الذي صام من أجله، هو رب شوال وبقية الشهور والسنين والزمن الممتد إلى يوم الدين، فلا ينكص على عقبيه، ولا يفرط في النعمة التي وهبها الخالق سبحانه، وهي نعمة العبودية له بمعنى الطاعة والخضوع والحب، ونعمة التحرر من كل ما عدا الله من عبيد الله، المسلم المؤمن الحر يستشعر الحرية الحقيقية التي تنفخ في روحه الكرامة والعزة والأمل، وتدفعه إلى تحدي الخوف والجبن والحرص على الحياة الذليلة والرق لغير الله.
إنه يأخذ من رمضان كل ما فيه، ويستطيع أن ينقله إلى ما بعد رمضان دون إلزام أو فرض.
يستطيع أن يذهب إلى المساجد في كل الصلوات، ويكثر من النوافل، ويمكنه أن يواصل قيام الليل والتهجد ويسعد بصلاة الفجر وتباشير الصباح بهوائها النقي المتجدد.
الأفق مفتوح أمام المسلم المؤمن الذي عبَر الشهر الكريم بنجاح ليواصل العطاء الخير، فينفق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويساعد المحتاجين، ويقف إلى جوار الضعفاء والمساكين بنخوة رمضان وشهامته وعزيمته.
في أيام السنة بعد رمضان فرصة للصوم بدءاً من الأيام الستة في شوال، وصيام الإثنين والخميس والعشر الأوائل من ذي الحجة وعاشوراء ويوم قبلها أو بعدها ورجب وشعبان، وهكذا يجد المسلم المؤمن نفسه في رحاب عالم الصوم بتجلياته الصافية المضيئة روحياً وبدنياً.
القرآن الكريم لدى المسلم المؤمن الذي عبَر التجربة الرمضانية بنجاح يتحول إلى صديق حميم بعد رمضان، لا يفارق صاحبه في الفجر أو عند العبادة، فضلاً عن انتقاله من حالة القراءة المجردة أو الحفظ الأصم إلى ترجمة عملية تحكم السلوك والحركة والفكرة، يتحول بصاحبه إلى كيان حي يمشي على الأرض.
وتتجلى لدى المسلم المؤمن في رمضان قدرته على المقاومة لظواهر الفساد والسطحية والبؤس البشري الذي يصنعه بعض المنحرفين أو الضالين أو المغيبين بعد رمضان، فيتصدى بقوة إيمانه لما تبثه وسائل الدعاية من فنون رديئة وأفكار متهافتة وآراء غير سديدة، وينصرف إلى ما هو مفيد ونافع وراسخ، ولا تنال منه محاولات الغواية التي تسعى إلى صرفه عن النعمة الإلهية التي أدركته في رمضان.
انزعاج مفهوم
لا ريب أن هناك من ينزعجون بسبب انخفاض رواد المساجد بعد رمضان، وعودة بعض الناس إلى الغفلة عن أعمال الخير أو انخراطهم في سلوكيات تتعارض مع منهج الدين، وهذا الانزعاج مفهوم ومشروع، ولكنه ينبغي أن يتوجه بنا إلى فهم أسبابه وطريقة معالجته.
إن ما أصاب الأمة من تفريط في تعليم الدين الصحيح وثوابته الأساسية، وانخراط بعض الناس بما يسمى التدين الشكلي أو التدين المنقوص أو التدين المغشوش، والحملات الضارية التي يشنها خصوم على مدار الساعة في أجهزة الدعاية والصحافة وندوات الفكر والرأي؛ يجعلنا نسعى إلى معالجة التدين الشكلي أو التدين القاصر أو التدين المغشوش، كما نسعى بكل جهد إلى الوصول بصحيح الدين إلى أعماق هؤلاء البسطاء الذين غابوا أو غيبوا عن ساحة الدين الحق.
خذ مثلاً التاجر الذي يطفف الكيل، ويمتنع عنه في رمضان ثم يعود إليه بعد رمضان، والموظف الذي يدمن الرشوة ويمتنع عنها في رمضان وحده، وشاهد الزور، وآكل لحم أخيه ميتاً، والنصاب الذي يخدع الناس ويسلبهم أموالهم وممتلكاتهم، وغير هؤلاء ممن يعتقدون أن جرائمهم تجوز طول العام إلا في رمضان؛ هؤلاء وأشباههم لم يدركوا معاني الدين عامة ورمضان خاصة، ويحتاجون لمن يعلمهم أو يجعلهم يتذوقون معنى رمضان، ومعنى الإيمان وطاعة رب رمضان وبقية الشهور، وحبذا لو تعلموا من قوله تعالى: (قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ) (الأنعام:71)، وحبذا أيضاً لو تعلموا من قوله تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {191}) (آل عمران).
وهذا يحتاج من أولي العلم أن يقوموا بتوصيل المعاني الدقيقة إلى هؤلاء الذين يفقهون الدين وفقاً لمعلوماتهم الضحلة أو البسيطة أو المغلوطة، حتى تتعمق لديهم الرؤية الإسلامية الصحية لمعنى العبادة من ناحية، ومفاهيم رمضان من ناحية أخرى.
رسالة الدين
إن الناس في مجملهم أصحاب نوايا حسنة، ولكن قلة الوعي بالدين تجعلهم يفسرونه حسب قدراتهم، وهنا يتوجب على أهل العلم أن يقوموا بمهمتهم الصعبة والضرورية في توصيل رسالة الدين وتثبيتها في الوعي العام، سواء من خلال البيت أو المدرسة أو وسائط الدعوة والدعاية.
إن العيد يقبل بعد رمضان ويؤذن بمرحلة أخرى في حياة المسلم المؤمن اليومية والإنسانية، وهو مناسبة يلتقي فيها المسلمون للتعبير عن الفرح بالصوم وطاعة رب العباد ووحدة الأمة في الاستجابة لنداء الحق سبحانه بالصوم في مواجهة الواقع والمستقبل.
وفي هذه المناسبة الجماعية يتذاكر فيها المسلمون أحوال أمتهم وشؤونها على امتداد المعمورة، فيرون ضعفهم وهوانهم على الأمم الأخرى، واستباحتهم من قوى القهر والكفر، ويطالعون صورتهم المهينة، وقد ضاعت كرامتهم واستبيحت أراضيهم، وصار تهجير أشقائهم بالملايين في أرجاء الدنيا في ظل العناء والمذلة طقساً يومياً من طقوس العار والهوان، ولا بد أنهم سيعملون على استعادة نقاط القوة في عقيدتهم لتعمل من جديد، ولحظات الظفر لمواجهة الواقع المتهرئ الضعيف.
ما بعد رمضان استمرار لرمضان في حياة المسلم المؤمن الذي عبر تجربة الصوم بنجاح، وتشرب المغزى والمعنى من فريضة الركن المهم من أركان الإسلام الخمسة، الذي تلخصه الآية الكريمة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183}).
وسوم: العدد 676