العلم والتسامح
في خضم الفوضى " غير الخلاقة" التي تعم هذه الأيام عالمنا العربي، بدأت نخبة من الباحثين والمثقفين ينادون بثورة فكرية ودينية أملاً في الخروج من هذه الفوضى، وتدشين "عصر تنوير" يماثل عصر الأنوار الذي شهدته أوروبا في القرن الثامن عشر بعد قرون من الحروب الأهلية والدينية والخراب، ذلك التنوير الذي استهدف تصحيح العقول بعد قرون من الظلام والجهل والخرافة !!
وقد استند دعاة التنوير يومذاك إلى نقد العقل، وقد نشط هذا التوجه بعد جملة من الكشوف العلمية العظيمة التي كشفت الكثير من حقائق الوجود وبدأت تؤثر تأثيراً واضحاً في النظر إلى العالم ، لا العالم المادي وحده وإنما عالم الأفكار أساساً، فتلك الكشوف العلمية أجبرت العقول على تغيير الكثير من المفاهيم الماضوية، لاسيما منها الأفكار الدينية التي ورطت أوروبا في حروب دينية دامية، فقد كشف العلم عبثية هذه الحروب، وقدم للناس رؤية ناقدة دفعتهم لتغيير النظر إلى العالم، وفي هذا الجو المحرض على التفكير والنقد ولد مفهوم "التسامح" الذي بدأ يطفئ نيران الانتقام، والانتقام المضاد، ويزيل الأحقاد التي احتقنت في النفوس طوال تلك الصراعات والحروب، وقاد المجتمع نحو رؤية عقلانية انتهت بإحلال السلام والأمن، وجعل الحروب مجرد ذكرى لا يريد أحد أن يسترجعها !!
وهكذا كان العلم وراء تأسيس فكر نقدي نقل أوروبا ومن سار على نهجها نحو مستقبل جديد ، والفكر النقدي الذي ولد في أوروبا لم يهتم بفضح عيوب الآخرين أو بيان تهافت أفكارهم كما هو شائع عندنا، وإنما هو الفكر النقدي الباحث عن الحقائق ، فهذا الضرب من النقد هو الذي حرر العقل وقاده إلى أنوار الحقيقة، وعندما يتخلى العقل عن النقد بهذا المعنى الذي عرضناه يتحول الجهد العقلي إلى إيديولوجيا بائسة أو عقيدة متزمتة تنشر الظلام والتطرف لا الأنوار، لأن هذا الضرب من العقل غير الناقد يتحول إلى يقين يدعي "الحقيقة المطلقة" وبدل أن يكون همه البحث عن الحقيقة يصبح همه تقرير "الحقيقة" التي يتوهمها هو وليس الحقيقة كما هي في الواقع، وهذه الحقيقة المتوهمة تقود صاحبها إلى التعصب، ومع التعصب يقع الخلاف والنزاع الذي يولد العنف، وعندها يستحيل التسامح وتقع الفوضى التي تدخل المجتمع متاهات الصراع العبثي والقتال وسفك الدماء، كالمتاهات التي نعيشها اليوم في سياق " الربيع العربي" الذي إن لم ننظر إليه نظرة ناقدة فإنه ماضٍ بنا لا محالة إلى ظلام التعصب ومتاهات الانتقام، والانتقام المضاد، ما يجعل هذا الربيع يتحول إلى خريف لا يبقي ولا يذر، وقد بدأت تباشير هذا الخريف تطل في الأفق ... للأسف !!
ويخبرنا تاريخ الفكر البشري أن الجهد البشري عامة غير معصوم عن الخطأ، وهذا ما يوجب أن تظل أفكارنا محلاً للشك، فإذا كان الأمر كذلك وهو حقاً كذلك، فلا غرابة أن نجد "الشك" مبدأ عظيماً عند واحد من أبرز فقهائنا المتكلمين، ألا وهو الإمام أبي حامد الغزالي (١٠٥٨-١١١١) في كتابه " المنقذ من الضلال" حين قال : ( من لم يشكّ لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر ظل في متاهة العمى والضلالة ) ولهذا نجد العلماء الكبار لا يزعمون لما توصلوا إليه أنه يقين مطلق، وإنما هو حقيقة نسبية، ويتركون المجال لاحتمال نقضها بحقيقة لاحقة، ولهذا نجد أن دأب العلماء الحقيقيين هو الشك الذي يدفعهم باستمرار للبحث عن الأخطاء لتصحيحها، على النقيض من أصحاب الإيديولوجيا والعقائد، الذين يزعمون امتلاكهم الحقيقة المطلقة، ويعتبرون الشك مرضاً يناقض ما يعتقدون !!
وهذا المنهج النقدي هو الذي جعل الرياضي الإنكليزي الفرد نورث وايتهد (1861 - 1947) يقول : إن الآراء المتصارعة ليست كارثة ، بل هي الخطوة الأولى نحو اكتشاف الجديد ! وقد سجل تاريخ العلم الكثير من اختلاف وجهات النظر بين العلماء لكن لم يسجل التاريخ أن عالمين اقتتلا من أجل ذلك لأن إيمان العلماء بنسبية الحقائق يفتح المجال لتسامح بعضهم تجاه بعض، بينما سجل تاريخ العقائد الفكرية - من ساسة ورجال دين- عدداً لا يحصى من الصراعات والحروب الدامية، لأن اعتقاد هؤلاء بامتلاك الحقائق المطلقة لا يدع مجالاً للتسامح !!
واليوم ... ونحن نعيش هذه الفوضى التي راحت تحرق الأخضر واليابس في بلداننا العربية والإسلامية، وتهدد بمحو بعض بلداننا عن الخارطة، هل آن لنا أن ندرك هذه المعاني فنفتح عقولنا وقلوبنا للتسامح وتوفير المناخ لتلاقح الأفكار وتخصيبها وتطويرها ، وتدشين عصر جديد يقوم على النقد والمراجعة، وفتح باب التسامح على مصراعيه، حسماً للنزاع والقتال !! ذلك أننا دون تسامح يستحيل أن نخرج من الفوضى التي نغوص اليوم في أوحالها؟!!
نعم، نقول بكل قناعة ووضوح، إن التقدم مستحيل دون تسامح ، ودون فتح الباب أمام حرية الرأي لأن هذا هو السبيل إلى الحقيقة التي تحسم النزاع !!
ورب من يعترض ويجادل بأن التسامح ممكن في العلوم التجريبية، أما في الإيديولوجيا والعقائد فإن ( دون ذلك خرط القتاد) كما يقول المثل، وهذا صحيح فإن التسامح في العلوم ممكن عسير في الإيديولىجيا والعقائد، لكن صحيح أيضاً أن العلم الذي يتسم عادة بالتسامح يجهز الأرضية اللازمة للتسامح في العقائد والإيديولوجيا، وهل كان يمكن أن تصل أوروبا إلى عقلانية التسامح التي نشرها فلاسفة الأنوار - مثل روسو وفولتير ولوك وغيرهم - لولا الثورة العلمية التي دشنها اسحق نيوتن ( ١٦٤٣- ١٧٢٧) ومن جاء بعده من العلماء الكبار، تلك الثورة العلمية التي وفرت أرضية عقلانية جعلت المجتمع يميل إلى التسامح، وكأن تلك الثورة العلمية قد حققت المنهج الإلهي القائل ( وإنْ جنحوا للسلم فاجنح لها) سورة الأنفال ٦١، وهكذا أنار العلم زوايا العقل وبدد الأوهام التي سيطرت على أوروبا في عصور الظلام !!
وما دمنا اليوم بعيدين عن العلم فلا أمل في نزع فتيل الصراعات العبثية التي نخوضها في شراسة بعيون أعماها التعصب والتطرف، وعقول طلقت العقلانية والتسامح بالثلاث !!!
ونعود فنذكر أن تللك الثورة العلمية التي شهدتها أوروبا وغيرت الكثير من المسلّمات التي كانت سائدة حول موقع الأرض والإنسان في العالم، نقول إن تلك الثورة لم تزعزع فقط المسلمات الفلكية وإنما زعزعت معها الكثير من المسلمات الفكرية والخرافات والأساطير التي عاش عليها الناس قروناً طويلة دون أن يجرؤ أحد منهم على مسها أو الاقتراب منها، وهذا يعني ضرورة أن نضع مفهوم "التسامح" في سياقه التاريخى، فلا يمكن فرض التسامح على مجتمعات لم تتعرض إلى هزات علمية مزلزلة كالتي تعرضت لها أوروبا، فالتسامح لا يولد في المحاضرات والندوات والخطب الرنانة، وفي جو العراطف الجياشة، وإنما يولد في ظل الرؤى الثورية القائمة على أسس من العلم ... فت
وسوم: العدد 677