يحكون في بلادنا
يوميات نصراوي:
(يا أمّة تنّبهي / فلا تزال الحيّة الرقطاء/ عطشى إلى الدماء – سالم جبران)
كيف لشاب في جيلي، ربط مصير حياته بمصير شعبه منذ بداية تفتح وعيه، ان ينسى حادثا فجر الغضب في شوارع بلداتنا، خاصة في مدينتي الناصرة، يوم انطلقت المظاهرات الجبارة احتجاجا على جريمة قتل خمسة شباب (1961) وهي تهتف: "شعبنا شعب حي دمه ما بصير مي"؟
*******
عام 1961 وتحديدا اوائل شهر تشرين اول ، كنت طالبا في الصف التاسع في المدرسة الثانوية البلدية في الناصرة، مبنى المدرسة بجانب ساحة كنيسة البشارة للروم الأرثوذكس، عرفت باسم "مدرسة ابو جميل"، اسم احد مدرائها المشهورين يوم كانت مدرسة ابتدائية، ثم تحولت الى مدرسة ثانوية واليوم أصبحت دارا لبلدية الناصرة.
صباحا مع وصولي للمدرسة وجدت قيادات من الحزب الشيوعي والشبيبة الشيوعية بانتظار الطلاب على باب المدرسة، خاصة أعضاء الشبيبة الشيوعية من الطلاب، ليزفوا لنا نبا مرعبا رهيبا..
السلطات ارتكبت جريمة نكراء بقتل خمسة شباب عرب وتشويه أجسادهم، على الأغلب قبل قتلهم ولا بد من تحرك احتجاجي للطلاب ردا على الجريمة. الضحايا هم ثلاثة شباب من حيفا: جورج شاما(17 سنة)، جريس بدين(16 سنة) وريمون خوري(17 سنة) وهناك ضحيتان من سخنين هو الشاب فايز احمد سبع ومن ام الفحم هو الشاب محمود عبداللة الحاج أسعد.
كنت عضوا في منظمة الشبيبة الشيوعية، تجمع الطلاب الشيوعيين وزملاء آخرين، نشرنا الخبر بين الطلاب والمعلمين، الخبر احدث ردود فعل غاضبة لدى جميع الطلاب والمعلمين، تقرر بمشاورة طلابية عامة وسريعة إعلان الإضراب عن التعليم والخروج بمظاهرة تتجه للمدارس في الناصرة من اجل إشراك طلابها بالإضراب والمظاهرة الطلابية الاحتجاجية التي قررنا تنظيمها واشتراك جميع المدارس الثانوية في الناصرة بالإضراب والمظاهرة.
في الساعة الثامنة صباحا، موعد دخول الطلاب لغرف التدريس، كنا قد تنظمنا للخروج بمظاهرة تشمل كل الطلاب، توجهنا لمدرستين قريبتين، مدرسة مفتان الصناعية، حيث كانت في ايام زمان " سينما ريكس الجليل" قرب هيبر ابو خضرة اليوم (منطقة عين العذراء)، ليس بعيدا عنها المدرسة المعمدانية (الأمريكان) مقابل بستان البلدية، اخرجنا الطلاب الثانويين من الصفوف حيث انضموا الينا في مظاهرتنا الاحتجاجية.
توجهنا باتجاه مركز المدينة، الى مدرسة سليم التوفيق الابتدائية، التي هدمت واقيمت مكانها حديقة في مركز المدينة..
بعدها واصلنا مسيرتنا التظاهرية الى مدرسة المطران التي تقع على قمة جبل في حي المطران بالمنطقة الجنوبية في الناصرة، ايضا هناك اخرجنا الطلاب وصارت مظاهرتنا ضخمة حيث انضم اليها تلقائيا المئات من الشباب والأهالي، بعد ان علموا بالجريمة النكراء..
اثناء نزولنا من مدرسة المطران ومقابل معسكر الجيش بالمنطقة الجنوبية، كانت الشرطة وقوات حرس الحدود قد اعدوا لنا كمينا ، هوجمنا بعنف من قبل مئات رجال الشرطة وحرس الحدود، لم يكن امامنا الا التراجع ، عدا بعض من اعتقلوا، صددنا الهجمة البوليسية بالحجارة كالعادة وخضنا معركة استمرت لساعات طويلة قبل ان نتفرق في اتجاهات مختلفة.
مظاهرتنا وصدامنا مع الشرطة كان له فعل الصعقة الكهربائية التي لفتت انتباه أهلنا في الناصرة اولا وكل المواطنين العرب في مختلف البلدات.
في نفس اليوم دعا الحزب الشيوعي الى إضراب شامل ومظاهرة في الناصرة في الوقت المحدد سلفا للجنازة المشتركة للضحايا الثلاثة من مدينة حيفا والجنازتان في سخنين وام الفحم.
لأول مرة تشهد الناصرة مسيرة بمشاركة (10) الاف متظاهر. المظاهرة الأضخم في تاريخ الناصرة ولأهل الناصرة فقط ، لفهم ضخامة المظاهرة في الناصرة اشير الى ان عدد سكان مدينة الناصرة في ذلك لوقت لم يتجاوز ال 35 الف انسان.
كان الغضب كبيرا ودوى الهتاف مثل الرعد: "شعبنا شعب حي دمه ما بصير مي" وطالبنا بلجنة تحقيق بمقتل الشباب الخمسة. تفاصيل قتلهم تدعو للشك في رواية جهاز الأمن الاسرائيلي خاصة عملية التشويه لأجساد الضحايا الثلاثة من حيفا.
ما علمته ان الجنازة في حيفا تحولت الى مسيرة غاضبة بمشاركة الالاف من المواطنين من كافة انحاء البلاد. انتشرت قوات الشرطة في الأحياء العربية من حيفا، خاصة وادي النسناس لفرض جو من الارهاب، غير ان ارهابهم ضاعف الغضب ودفع المزيد من الجماهير للمشاركة في الجنازة المشتركة.
اود ان أذكر حادثة صغيرة...
الشباب الثلاثة من حيفا، هم اصدقاء من ايام الطفولة، قررت الجماهير ووافق الأهل على دفنهم بمقبرة واحدة وبقبر واحد.
بعض العناصر المشبوهة حاولت ان تلعب لعبة الطائفية ..الشباب ينتمون لثلاث طوائف مختلفة، كاثوليكي، ماروني وأرثوذكسي.
احد رجال الدين تفوه بشكل لا يليق بأهمية الحدث، رافضا الدفن المشترك جراء اختلاف الانتماء الطائفي. في المقبرة الأرثوذكسية كان قد حفر قبر واحد، تنادى الشباب ان وسعوا القبر ليتسع للأصدقاء الثلاثة سوية، لن يفرقهم الموت. تناول الشباب عدة الحفر ووسعوا القبر ليتسع للأصدقاء الثلاثة، كما كانوا في الحياة سوية دفنوا في قبر واحد ومقبرة واحدة، ولتذهب العقليات الطائفية الى الجحيم.
رثى شعراءنا ضحايا الجريمة النكراء .. واتذكر ان محمود درويش كتب قصيدة جعلتنا نبكي، القاها (اذا لم تخني الذاكرة) في قاعة "سينما امبير" في الناصرة (اليوم مخبز).
ها انا اسجلها كوثيقة، مع الخلفية التاريخية التي فجرت كلماتها.
قصيدة مهرجانية، منبرية؟ أه ما كان احوجنا لهذا الشعر في تلك الأيام السوداء!!
___________________
يــحــكــون فــي بــلادنــا
قصيدة محمود درويش في رثاء الشباب الخمسة
-1-
يحكون في بلادنا
يحكون في شجن
عن صاحبي الذي مضى
وعاد في كفن
كان اسمه...
لا تذكروا اسمه!
خلوه في قلوبنا...
لا تدعوا الكلمة
تضيع في الهواء، كالرماد...
خلوه جرحاً راعفاً... لا يعرف الضماد
طريقه إليه...
أخاف يا أحبتي... أخاف يا أيتام...
أخاف أن ننساه بين زحمة الأسماء
أخاف أن يذوب في زوابع الشتاء!
أخاف أن تنام في قلوبنا
جراحنا...
أخاف أن تنام!!
-2-
العمر... عمر برعمٍ لا يذكر المطر...
لم يبك تحت شرفة القمر
لم يوقف الساعات بالسهر...
وما تداعت عند حائطٍ يداه...
ولم تسافر خلف خيط شهوةٍ... عيناه!
ولم يقبّل حلوةً...
لم يعرف الغزل
غير أغاني مطرب ضيّعه الأمل
ولم يقل لحلوة: الله!
إلا مرتين!
لم تلتفت إليه... ما أعطته إلا طرف عين
كان الفتى صغيرا...
فغاب عن طريقها
ولم يفكر بالهوى كثيرا... !
-3-
يحكون في بلادنا
يحكون في شجن
عن صاحبي الذي مضى
وعاد في كفن
ما قال حين زغردت خطاه خلف الباب
لأمه: الوداع!
ما قال للأحباب... للأصحاب:
موعدنا غداً!
ولم يضع رسالة... كعادة المسافرين
تقول: إني عائدٌ... وتسكت الظنون
ولم يخطّ كلمةً...
تضيء ليل أمه التي...
تخاطب السماء والأشياء،
تقول: يا وسادة السرير!
يا حقيبة الثياب!
يا ليل! يا نجوم! يا إله! يا سحاب! :
أما رأيتم شارداً... عيناه نجمتان؟
يداه سلتان من ريحان
وصدره وسادة النجوم والقمر
وشعره أرجوحةٌ للريح والزهر!
أما رأيتم شارداً
مسافراً لا يحسن السفر!
راح بلا زواًّدة، من يطعم الفتى
إن جاع في طريقه؟
من يرحم الغريب؟
قلبي عليه من غوائل الدروب!
قلبي عليك يا فتى... يا ولداه!
قولوا لها، يا ليل! يا نجوم!
يا دروب! يا سحاب!
قولوا لها: لن تحملي الجواب
فالجرح فوق الدمع... فوق الحزن والعذاب!
لن تحملي... لن تصبري كثيرا
لأنه...
لأنه مات، ولم يزل صغيرا!
-4-
يا أمه!
لا تقلقي الدموع من جذورها!
للدمع يا والدتي جذور،
تخاطب المساء كل يوم...
تقول: يا قافلة المساء!
من أين تعبرين؟
غصًّت دروب الموت... حين سدّها المسافرون
سدّت دروب الحزن... لو وقفت لحظتين
لحظتين!
لتمسحي الجبين والعينين
وتحملي من دمعنا تذكار
لمن قضوا من قبلنا... أحبابنا المهاجرين
يا أمه ! لا تقلقي الدموع من جذورها
خلّي ببئر القلب دمعتين!
فقد يموت في غد أبوه... أو أخوه
أو صديقه أنا
خلي لنا...
للميتين في غد لو دمعتين... دمعتين!
-5-
يحكون في بلادنا عن صاحبي الكثيرا
حرائق الرصاص في وجناته
وصدره... ووجهه...
لا تشرحوا الأمور!
أنا رأيت جرحه
حدقت في أبعاده كثيرا...
"قلبي على أطفالنا"
وكل أم تحضن السريرا!
يا أصدقاء الراحل البعيد
لا تسألوا: متى يعود
لا تسألوا كثيرا
بل اسألوا: متى
يستيقظ الرجال!
___________________
ملاحظات:
بعض النقد السلبي (بمضمونه) الذي يوجه للمرحلة المبكرة من قصائد شعراء الوطن الفلسطيني، او شعراء المقاومة كما ذاع صيتهم، هو كون شعرهم ينحو أكثر نحو الشعر المهرجاني، شعرا منبريا، خطابيا او شعارتيا ..كما لاحظ العديد من النقاد ، خاصة للمرحلة التي اعقبت "اكتشاف" شعرنا "داخل الحصار" الذي عانت منه الأقلية العربية الباقية في وطنها..
كتبت مرات عديدة عن هذه الظاهرة، ولن اعود لما سجلته، انما اضيف ان تبرير هذا الشعر وقيمته، تنجلي بقوتها اذا كشفنا النقاب عن خلفية الأحداث التي فجرت هذا اللون الشعري الذي لا اعرف شعرا عربيا بمستواه وبقدرته ان يصبح سلاحا قويا بأيدي مليون عربي يعانون من الاضطهاد القومي ، ويعاملهم العالم العربي ( في تلك الفترة) كخونة ، او شبه صهاينة حتى كانت حرب عام 1967 ليكتشف اولا الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني "كنوزنا الشعرية" .. ويصعق العالم العربي بشعر مقاوم متحد يواجه المخرز بكفه العزلاء بجرأة وقوة ولا يتردد بدفع حريته الشخصية ومستقبله ، ثمنا للدفاع عن وطنه وحقوق شعبه وفضح ممارسات النظام العنصري الابرتهايدي وممارساته الاجرامية ضد اقلية عربية محاصرة ومعزولة عن محيطها، ينظر اليها العالم العربي بعين الشك والازدراء، لكنها تهب بقوة دفاعا عن شرعية وجودها بوطنها وتهز الأرض ضد الممارسات الاجرامية للنظام الصهيوني.
طبعا انا لا اتحدث عن الشعر بمفهومة الأدبي الثقافي وتقييمه كلون أدبي، إنما أتحدث عن نوع من شعر سياسي نضالي لعب دورا هاما في معاركنا السياسية، كنا بحاجة الى الكلمة التي تُثور الجماهير وتجندها في النضال السياسي من اجل مطالبنا العادلة. وانا ادعي ان تلك الظروف السياسية النضالية كان لها وزنها الهائل في شهرة شعرنا النضالي المنبري، الذي فاجأ العالم العربي بقوة تعبيره وثوريته في التحدي للواقع الاضطهادي الذي فرضته الدولة الإسرائيلية على الجزء الباقي في وطنه من شعبنا الفلسطيني .
وكم كان صادقا الشاعر سالم جبران بصرخته:
يا أمّة تنّبهي
فلا تزال الحيّة الرقطاء
عطشى إلى الدماء!!
وسوم: العدد 678