صَهْيَنَة التاريخ!

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 218

يكرِّر بعضُ المؤرِّخين المعاصرين القولَ إنَّ عِلْم الآثار قد فشل في العثور عن شواهد تاريخ (بني إسرائيل) في (فلسطين)، ومع ذلك يجتهدون باستماتة للبحث عن ذلك التاريخ في (جزيرة العرب)!  فتنقض نتائجُهم مقدماتهم ومقدماتُهم نتائجهم.  كأنه لم يسعهم، إذن، تصوّر أن تلك المدوّنات التوراتيّة والملاحم محض تراثٍ شعبي، تُهيمن عليه الأساطير، والتهويمات الدعائيَّة الشاعريَّة لشعب كان وباد، دفعته قداسة الأسلاف إلى صناعة واقعٍ معطًى متخيَّلٍ يعوِّض الواقع التاريخي والجغرافي المستبَى، أنشأه كتبةٌ بعُدت بهم الشقة زمانًا ومكانًا، كما رأينا في مقال سابق في سِفر (حزقيال) على سبيل النموذج.(1)  كما لم يسعهم، قبل ذلك، تصوّر أن ما حَقَّ تاريخيًّا من تلك الآثار قد مُحي محوًا متعمّدًا، سُنَّة من خلَا من الأُمم التي تعرَّضت لعُدوان سياسيٍّ دِينيٍّ، فاستُهدفت جميع آثارها ومعالم عمرانها، ومعابد دِينها، ومعاهد تاريخها، بالتقويض، والاستئصال.  وقد تعرَّض بنو إسرائيل لسِلسلة من تلك الحملات العسكريَّة الشاملة لطمس تاريخهم، كان يشتهر منها دائمًا استهداف (أورشليم)، قلب ديانتهم، وأعظم مُدنهم.  ولا بُدّ أن ما سِوى أورشليم كان أدعى للزوال.  ومن المؤكَّد أن تلك الحملات، مع عوامل أخرى، قد أفلحت في تدمير كلّ ما له علاقة بتاريخ اليهود في بلاد (الشام)، ممَّا صوَّره «العهد القديم».  وبذا فنحن أمام ثلاث حقائق، تجعل عدم العثور على آثار بني إسرائيل في بلاد الشام أمرًا طبعيًّا جِدًّا:

1- عامل الزمن والتقادم، وتوالي الأُمم والشعوب والحضارات على سُكنَى تلك الدِّيار.

2- الحملات الحربيَّة الشعواء التي ظلَّت تستهدف آثار بني إسرائيل، لأسباب دِينيَّة وسياسيَّة ماحقة، لا تُبقي ولا تذر، لاستئصال شأفتها.

3- أن تلك الآثار، ومهما بلغت مكانتها بمقاييس عصرها، لم تكن أصلًا بتلك العظمة الأُسطوريَّة التي صوَّرها الخيال الأدبي الشعبي في «التوراة».  ولنضرب مثالًا هاهنا توضيحيًّا على ما يفعله ذلك الخيال عادةً من نَمْذَجَةٍ كُبْرَى، وأَسْطَرةٍ فاحشةِ المغالاة، لأشياء لا مقارنة بين أصولها الواقعيَّة وصورها الأدبيَّة.  لطالما قرأنا مثلًا عن (الأَبْلَق الفَرْد)، قَصر الشاعر اليهودي (السموأل بن عادياء) في (تَيماء)، شَمال (الحجاز)، وتخيَّلناه- بناءً على النصوص الشِّعريَّة التي أشادت به، وبمناعته، وشموخه- قلعةً شمَّاء، وواحدةً من عجائب الدنيا في العمران.  يقول عنه (السموأل)(2):

هُوَ الأَبلَقُ الفَرْدُ الذي شاعَ ذِكرُهُ  * *  يَعِزُّ على مَن رامَهُ ويَطولُ

ويقول (ورقة بن نوفل)(3):

إنِّـي يراني المُوعـديّ كأنَّـني  * *  في الحِصْنِ مِن نَجرانَ أو في الأبْلَقِ

في يافعٍ دون السماء مُمرَّدٍ  * *  صَـعـــبٍ  تَـزِلُّ بـهِ  بَـنـانُ  المُـرتــــقـي

ولكن ماذا نجد حينما نبحث عن ذلك الأثر اليوم؟  لا نجد- حسب كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي- أكثر من أكوامٍ من تراب، لا تدلّ إلَّا على أن أُطمًا بدائيًّا من الآطام كان هناك، لعلّه كان مبنيًّا باللَّبِن الطِّيني، كتلك التي نعهدها شاهدة بقياها على ماضيها القريب في (الدرعيَّة)، على سبيل المثال.  فذلك، إذن، كان «الأَبْلَق الفَرْد» الشهير، الذي بلغ به الخيال الشِّعري شُرفات السماء.  وتلك طبيعة الشِّعر، وما في حُكمه من النصوص، وتحليقها بالتراب إلى السحاب. فكيف إذا رادفت الطبيعة الشاعريَّة التهوّسات الدِّينيَّة والحماسات الشعبيَّة؟!  وقِسْ على هذا ما تقرأ حول عمران الأُمم السالفة، ممَّا لا شواهد أثريَّة تدلّ على حقيقته. 

على أن الفرق بين الصهاينة وهؤلاء المؤلِّفين العرب أن الصهاينة ينقِّبون عبثًا عن ذلك التاريخ في أرض فلسطين، والمؤلِّفين العرب هؤلاء يتولَّون عنهم التنقيب عن تاريخهم في قلب الجزيرة العربيَّة!  وأيّ قوميّة عربيَّة مدَّعاة هاهنا، والمؤرّخ السوري- كسابقه اللبناني ولاحقيهما- إنما يَمْهَد لنقل دعاوَى الصهاينة من إقليمه الشامي ليوجِّهها إلى جزيرة العرب؟!(4)  فيفشل الأوَّلون (الصهاينةُ)، ويُضحِك الآخرون (العربُ) بما تكلَّفوا من أباطيل، بلغت غلواءها من الادّعاء؛ حتى ليقول أحدهم إن (الهكسوس) لا علاقة تاريخيَّة لهم بمِصْر، وإنما هم مجموعة قبائل من الرُّعاة غزت محطَّة (مصريم) وشيخها فرعون في بلاد غامد(5)، أو أن (بحر القلزم)- الذي عُرِف بهذا الاسم عبر التاريخ العربي وغير العربي- مجرَّد وادٍ هناك، وإنما تسمية البحر الأحمر ببحر القلزم تزويرٌ صهيوني!(6)  وبهذا النزوع القسري إلى صهينة التاريخ يبدو التاريخ البشريّ كلّه، قديمه والحديث، وَفق هذا المنظور المَرَضي، تزويرًا صهيونيًّا واستشراقًا استعماريًّا، ومنذ الأزل.  وتلك دعاية أُسطوريَّة أخرى للمكر الصهيونيّ التآمري العظيم، الذي لا تحدّه حدود ولا تقف دونه حضارة ولا تاريخ، تُضاف إلى الدعايات الأُسطوريَّة التوراتيَّة عن شعب الله المختار الذي لا يُقهر.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يُسجِّل المستشرق الإنجليزي (ديكسون، هارولد، (1990)، الكويت وجاراتها، (؟: صحارَى للطباعة والنشر)، 1: 137- 138) واحدة من المحاولات المبكِّرة للتنقيب عمَّا جاء في «سِفر حزقيال»، في عامَي 1909 و1910، حيث حكى أن أديبًا فنلنديًّا يُدعَى (الدكتور والتر جوفيليوس) ومساعده، وهو مهندس سويدي يُدعَى (ميلاندر)، كانا يعتقدان أنهما اكتشفا رموزًا سِرِّيَّة في «سِفر حزقيال» تُبيِّن موقع كنز (بني إسرائيل) قبل السبي إلى (بابل)، وقبور ملوكهم، بمن فيهم (داوود) و(سليمان)، إضافة إلى فُلك (نوح)، وسيف سليمان وعرشه.  وبمساعدة أحد الضباط الإنجليز واثنين من المغامرين البريطانيِّين، ظلّوا ينقِّبون خارج أسوار (القُدس)، ثمَّ تحت قُبَّة الصخرة، فلم يظفروا بشيء، ثمَّ فكَّروا بالسطو على مسجد (عُمَر)، ولمَّا ضُبطوا وهم في حفريَّاتهم، لاذوا بالفرار إلى (يافا)، ومن هناك تسلّلوا ليلًا خارج (فلسطين). 

(2) (د.ت)، ديوانا عروة بن الورد والسموأل، باعتناء: كرم البستاني وعيسى سابا (بيروت: دار صادر)، 90. 

(3) الفجاوي، عمر عبدالله؛ ريم فرحان المعايطة، (1430ه= 2009)، "شعر ورقة بن نوفل: جمع ودراسة"، (المجلَّة العلميَّة لجامعة الملك فيصل (للعلوم السياسيَّة والإداريَّة)، م10، ع1، (جامعة الملك فيصل)، ص ص91- 131)، ص107.

 (4) الأهداف السياسيَّة وراء غرائب المؤلَّفات هذه لا تخفَى، ولسان حالها ذلك التعبير الشعبي العربي، الضارب في كبد العنصريَّة القبيحة: «أنا وأخوي على ابن عمِّي، وأنا وابن عمِّي على الغريب».  لكنه من الواضح أن الاثنين سيظلّان عبدَين لدى الغريب، ما داما بهذه العقليَّة القَبَليَّة الشوفونيَّة!

(5) انظر: داوود، أحمد، (1991)، العرب والساميّون والعبرانيّون وبنو إسرائيل واليهود، (دمشق: دار المستقبل)، 339.

(6) انظر: م.ن، 338.  ومن أقدم من يشير إلى البحر الأحمر باسم «القُلْزُم» من البلدانيِّين العرب (الهمداني، -345هـ تقريبًا= 956م) في كتابه «صفة جزيرة العرب».  ومن اللغويين العرب (ابن دريد (-321هـ= 933م)، (1987)، كتاب جمهرة اللغة، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، (بيروت: دار العلم للملايين)، 2: 1155 (الزاي والقاف)).  ومن الرَّحّالة (ابن المجاور (ق7هـ)، (1996)، صفة بلاد اليَمَن ومكّة وبعض الحجاز المسمّاة: تاريخ المستبصر، باعتناء: ممدوح حسن محمَّد (القاهرة: مكتبة الثقافة الدِّينيّة)، 47)، الذي ينصّ على أن بحر (سوف)- الوارد في «التوراة» أن فرعون أدركه الغرق فيه- هو بحر (القلزم).  وأشار في موضع آخر إلى أن «القلزم في صدر بحر (الحبشة)».  وكأنما هو اسم جزيرة، أو مكان بعينه؛ لأنه ذكره في مقابل جزيرة (البحرين)، في صدر بحر (فارس). (انظر: 331).  وأورد (ابن منظور، (قلزم)) أن القَلْزَمَة: ابْتِلاع الشيء، وأن بحر القَلْزَم، أو القُلْزُم، مشتّق منه؛ سمي بذلك لالتهامه من ركبه، وهو المكان الذي أُغرق فيه (آل فرعون).  لكن مَن يدري، فقد يكون (الهمداني) و(ابن دريد) و(ابن المجاور) و(ابن منظور) وغيرهم من ضحايا التزوير الصهيوني والاستشراقي، حسب عقليَّة الصَّهْيَنَة «الذات أنواطيَّة» المعاصرة!  

.................................................................

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «صَهْيَنَة التاريخ!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الأربعاء 3 أغسطس 2016، ص22].

وسوم: العدد 680