دور المفكر الإسلامي

أوقفت مؤسسة "الأهرام"، اليوم طبع العدد الأسبوعي لجريدة "المصريون"، المقرر صدوره اليوم الأحد، بسبب اعتراضات على مقال جمال سلطان رئيس التحرير والذى جاء تحت عنوان 

( دور المفكر الإسلامي)، الذي ينتقد تركيز الرئيس عبدالفتاح السيسي على مسألة الخطاب الديني أكثر من انشغاله بواجبات وظيفته الأساسية.

وجاء نص المقال  كالآتي:

"  لم يعد يخلو أسبوع واحد من وجود تصريح أو خطاب أو بيان أو تعليق للرئيس عبد الفتاح السيسي يتحدث فيه عن الشأن الديني ، وأهمية تجديد الخطاب الديني ، وتصحيح المفاهيم الدينية ، وضبط صحيح الدين ، والقراءة الصحيحة للتاريخ الإسلامي ، وتوجيه الرئيس لعلماء الدين بهذه المعاني ، ومناقشته لتطوير الفكر الديني مع شيوخ الأزهر ، وكلام لا ينتهي من هذه الشاكلة ، يجعلك تشعر بأنك أمام رجل دين وليس رجل دولة ، أمام مفكر إسلامي مهموم بقضايا الفكر الديني وليس أمام رئيس جمهورية مشغول بقضايا الاقتصاد والأمن والصحة والتعليم والخدمات الضرورية للمواطنين ، وهي التكليفات الأساسية المسئول عنها دستوريا ، وليس تفسير القرآن الكريم وتدقيق أحاديث السنة المشرفة .

جرت العادة في السابق ، على أن يتكلم رئيس الجمهورية في المناسبات الدينية كلمات مجاملة للدين وعلماء الدين ، كنوع من الفولكلور الشعبي الذي تستخدمه الدولة لمنافقة شعبها وإظهار الرئيس كشخص محب للدين ويحترم الدين وعلماء الدين ، ولكننا اليوم أمام حالة مختلفة ، أسبوعيا يعطينا الرئيس السيسي مواعظ وتوجيهات ومفاهيم للدين وصحيح الدين والخطاب الديني والفكر الإسلامي المستنير ، بمناسبة وبدون مناسبة ، هذا مزعج جدا بالفعل .

كما أنه مهين للمؤسسات الدينية التي يديرها علماء أفنوا أعمارهم في دراسة علوم الشريعة وقضايا الفكر الإسلامي ، ثم ينتهي بهم الحال إلى أن يأخذوا التوجيهات الدينية من "مواطن" كان قبل عدة أشهر ضابطا عسكريا محترفا ، خبراته منحصرة في الخبرات القتالية وتطوير الجيش ومتابعة الدراسات العسكرية وتطوراتها وأنواع الأسلحة ووسائل التدريب الحديث للمقاتلين وغير ذلك من أمور تخص مجاله الذي أفنى فيه عمره وخدم به وطنه ، ولا يعرف منه ولا عنه أنه تلقى علوما دينية من جامعات كبرى معروفة ، ولا درس الفقه والتفسير وأصول الدين في معاهد متخصصة ، ولا اشتغل بالإفتاء ولا حتى دراسة التاريخ الإسلامي ودورات الحضارة الإسلامية وخصائصها عبر التاريخ في الأزهر أو غيره .

ثم فجأة ، بعد أن جلس على كرسي رئاسة الجمهورية ، أصبح يعطي هؤلاء جميعا الدروس والتوجيهات في تخصصاتهم وقضايا الدين والفكر ، وكان قبلها يعطي التوجيهات نفسها للإعلاميين والصحفيين وكيف يمارسون مهنتهم ودورهم . هناك تحديات تواجهها مصر وغيرها من الدول العربية والإسلامية أمام الأفكار المتطرفة ، وهذه مسألة لا جديد فيها ، وهي ممتدة عبر التاريخ القديم كله ، وفي التاريخ الحديث عمقها يمتد لأكثر من ستين عاما على الأقل ، ولا يوجد دولة إلا وعانت وتعاني من هذه الأفكار ، ولا يوجد عالم دين إلا وواجهها بالفكر والحجة وفند أفكار التطرف ، والأزهر نفسه قدم الكثير من الكتب والندوات والمؤتمرات لمواجهة الفكر المتطرف منذ الستينات مرورا بالسبعينات وفسيفساء التنظيمات المتطرفة مرورا بالثمانينات وأفكار الجهاد والعنف مرورا بالتسعينات وانتشار المواجهات المسلحة وصولا إلى الوقت الحالي الذي عرف أفكار داعش .

لا جديد على الإطلاق ، لا في أفكار المتطرفين ولا في أفكار الرد عليهم ، فما الداعي لكي يخرج علينا رئيس الجمهورية كل أسبوع بتوجيهات ومواعظ لتجديد الفكر الديني والخطاب الديني والفهم الصحيح للنصوص وصحيح الدين ، هل أنت رجل دين أم رجل دولة ، ولماذا لا تنشغل فيما تحسنه وما هو مطلوب منك أساسا ، لماذا لا تعمل على تصحيح الخطاب الدنيوي ، وتنشغل بمحاربة الفساد واستعادة أموال الدولة المهربة والتي عجزت أنت ومن قبلك عن استعادة دولار واحد منها ، لماذا لا تعمل على وقف حالات الانتحار المتعاظمة الآن بسبب عجز المواطن عن شراء دواء لابنه أو أن يجد مستشفى "حكومي" يقبله ، لماذا لا تنشغل بحل الانقسام الوطني والاجتماعي العنيف الذي يعصف بالوطن الآن ويهدد مستقبله ويستنزف أي جهد للتنمية أو الإنقاذ بدلا من أن تحاول استخدام الخطاب الديني كأداة في الصراع السياسي الذي نعاني منه أساسا .

لماذا لا تنشغل بتطوير الخطاب القانوني لكي يصدق الناس أنهم يعيشون في دولة قانون وليست دولة القرار السياسي والمواءمات وتفصيل القوانين على مقاسنا ، لماذا لا تنشغل بصحيح الدستور ، وهو أولى بالتزاماتك ، ونصوصه محدده وصارمة ، لماذا لا تلتزم وتلزم كل مؤسسات الدولة الأمنية وغيرها بصحيح الدستور والتوقف عن انتهاك حقوق الناس وحرياتهم وأمانهم وإهدار كافة الضمانات التي قررها الدستور لهم ، بدلا من الهروب إلى الحديث عن صحيح الدين ، لماذا لا تنشغل وتشغل مؤسسات حكمك بتجديد الخطاب الإنساني ، لوقف هذه الاستباحة لآدمية الإنسان في مصر وموت المئات في الأقسام والسجون والشوارع بالتعذيب أو الحرمان من الرعاية الطبية أو منع الأدوية الضرورية فتفيض أرواح العشرات خلال أسابيع قليلة إلى بائها بفعل أداء أجهزتك وإداراتك ، بقلب بارد وبإصرار متزايد ، أليس ذلك أولى باهتمامك من الحديث عن صحيح الدين والخطاب الديني .

أرجو ، وأتمنى ، أن يتوقف الرئيس عن الاسترسال في هذا الخطاب "الهروبي" ، وأقول هروبي لأن البعض يعتقد أن إلحاح الرئيس عليه وتكراره بلا ملل هو محاولة للهروب من "الفشل" في شؤون الدنيا ، بافتعال أزمة في أمور "الدين" ، والإلحاح المتزايد على حكاية "الدين" والخلل في الفكر الديني ، وكأنه هو سبب ما تعانيه البلاد من أزمات وفساد وانهيار وتخبط وعجز مالي وسحق لكرامة الإنسان وسجون مترعة بعشرات الآلاف من المعتقلين من كل التيارات السياسية ، وتوسيد الأمر إلى غير أهله ، كما أني أخشى أن يتحول هذا "المناخ" إلى شماعة يعلق عليها أي مسئول فشله الإداري وسوء تخطيطه وعجزه عن الإنجاز أو الإبداع والابتكار .

وسوم: العدد 681