تأثير خروج بريطانيا من الاتحاد على الاقتصاد الاوربي
مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
تباينت الآراء ووجهات النظر بين مسؤولي بريطانيا وبين افراد شعبها من ناحية والدول الاخرى وخاصة دول الاتحاد الاوربي افراداً وحكومات من ناحية اخرى، حول مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي، وذلك التباين جاء كنتيجة لتوقعات الآثار التي يمكن ان يتركها خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي على الطرفين، لو تحقق فعلاً، وان الحد الفاصل للخروج من عدمه هو الاستفتاء لأفراد الشعب البريطاني الذي سيجري في 24 يونيو/حزيران 2016.
مؤيدون ومعارضون من داخل وخارج بريطانيا
ان كل الآراء ووجهات النظر لكلا الطرفين المؤيدين والمعارضين لمسألة خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي، كانت مبنية بالدرجة الاولى على اساس منهج اقتصادي، أي انها (الآراء ووجهات النظر) تبنى على اساس التكاليف والارباح التي ستُترك، اذ ان احد الطرفين يرى ان الخروج من الاتحاد الاوربي يؤثر بشكل سلبي على اقتصاد بريطانيا وبالتالي يكون الافضل عدم الخروج من الاتحاد بناءً على تحليلاته الخاصة، والعكس صحيح اي ان الطرف الآخر يرى ان الخروج يؤثر بشكل ايجابي على اقتصاد بريطانيا وبالتالي يكون الافضل عنده الخروج من الاتحاد بناءً على تحليلاته الخاصة ايضاً، وان كلا الطرفين المؤيدين والمعارضين هم من داخل بريطانيا شعباً وحكومةً، هذا من ناحية.
ومن ناحية اخرى، خارج بريطانيا أي الدول الاخرى شعوباً وحكومات وخصوصاً شعوب وحكومات دول الاتحاد الاوربي، هناك من يرى -وهم الاغلبية والاكثر صواباً- ان خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي سيترك آثاراً سلبية على الاقتصاد الاوربي بناءً على تحليلاته الخاصة، وبالمقابل هناك من يرى –وهم الاقلية والاقل صواباً- ان خروج بريطانيا سيترك آثاراً ايجابية على الاقتصاد الاوربي بناءً على تحليلاته الخاصة ايضاً. وكما ذكرنا ان التحليل ومن ثم والرأي (وجهة النظر) يكون مبنيا بالدرجة الاولى على المنهج الاقتصادي (التكاليف والارباح) علماً ان المنهج الاقتصادي لا يقتصر على التكاليف والارباح المادية فقط بل يمكن ان يشتمل على الارباح والتكاليف الاجتماعية والسياسية والعسكرية…إلخ.
ولإسناد ما تقدم يمكن الاستشهاد ببعض من أدلى برأيه سواء كان من مسؤولي بريطانيا أم من مواطنيها من ناحية، ومن مسؤولي الدول الاخرى وخصوصاً دول الاتحاد الاوربي أم من شعوبها من ناحية اخرى، فمن داخل بريطانيا نلاحظ ان رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون صرح بان "الاتحاد اصبح اكثر تدخلاً وتقييداً لحياة الاوربيين مما كان متوقعاً، أو بمعنى آخر اصبح عبئاً كبيراً عليهم، مما يستوجب اعادة التفاوض حول شروطه "تبريرا لرغبة بريطانيا بالخروج من الاتحاد، والسبب هو استعادة بعض السلطات التي تخلت عنها بريطانيا للاتحاد الاوربي مثل تحديد ساعات العمل، والسبب الآخر، خوفها من سيطرة منطقة اليورو على مجريات اتخاذ القرار في الاتحاد الاوربي، بالإضافة الى ذلك ان بريطانيا تتوقع ان نمو الاقتصاد الاوربي من خلال الاتحاد قد توقف تقريباً في مقابل نمو اقتصادات صاعدة مثل الصين والهند، والسبب الاخير هو الهجرة اذ ترى بريطانيا ان قوانين الاتحاد الاوربي هي السبب في تدفق المهاجرين اليها الذي اثر على المستوى المعيشي والنسيج الاجتماعي، ولم تنفذ مطالب بريطانيا من الدول الاوربية بخصوص آلية التحكم بتدفق المهاجرين اليها. في حين اعلن وزير المالية جورج اوزبورن ان الخروج يمكن ان يؤدي الى تطبيق "موازنة طوارئ" تقود الى زيادة الضرائب وخفض النفقات لتعويض فجوة العجز التي تقدر بقيمة 30 مليار جنيه استرليني (38 مليار يورو).
أما بالنسبة للشعب البريطاني فقد اظهر آخر استطلاع للراي عن طريق الهاتف الذي اجرته صحيفة "ميل اول -ساندي" في يومي الجمعة والسبت المصادف 17-18/6/2016 شارك فيه 1001 شخص وفق الاختيار العشوائي، ان نسبة المؤيدين للبقاء داخل الاتحاد بلغت 45% فيما تراجعت نسبة الرافضين للبقاء بنسبة 42%، بعد ان كانت اغلب الاستطلاعات تشير إلى تفوق نسبة الرافضين للبقاء على المؤيدين للبقاء، وهذا التحول جاء على خلفية اغتيال النائبة العماليّة في البرلمان البريطاني "جو كوكس" في 16 يونيو 2016، إذ ان جريمة القتل أدت الى رد فعل عكسي لما أراده مرتكب الجريمة الذي قالت وسائل الاعلام البريطانية انه قتل كوكس لأسباب تتعلق بموقفها الداعي الى البقاء في الاتحاد الأوروبي بينما هو من المعارضين لذلك بشدة وانه ينتمي الى المتطرفين في موقفه هذا.
وأما من خارج بريطانيا فقد اعربت الدول خاصة دول الاتحاد الاوربي عن عدم رغبتها في خروج بريطانيا من ذلك الاتحاد وذلك لما لهذا الانسحاب من آثار سلبية على الاقتصاد الاوربي، إذ ان بريطانيا تحتل مكانة متقدمة على مستوى العالم في اغلب مجالات الحياة وخاصةً الاقتصادية. فأعلن المكلف بمهمات رئيس الوزراء الإسباني ماريانو راخوي أن خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي سيكون كارثة للاقتصاد الأوروبي. وأعرب عن أمله بأن يصوت البريطانيون من أجل البقاء في الاتحاد الأوروبي، "لأننا قبل كل شيء أوربيون ونريد أن يبقوا معنا ". كما توصلت دراسة صادرة من المنظمة البحثية الألمانية "برتلسمان ستيفتونج" أن "الاقتصاد الألماني سوف يتكبد خسائر تتراوح قيمتها من 6.2 مليار إسترليني و41 مليار إسترليني إذا ما خرجت بريطانيا بالفعل من تحت عباءة الاتحاد الأوروبي، لكن أيرلندا ولوكسمبورج وبلجيكا ومالطا وقبرص سوف تواجه كلها خسائر تزيد على المتوسط ". في حين أعلنت مارين لوبن، النائبة الأوروبية ورمز اليمين الفرنسي المتطرف الجمعة 17 حزيران ـ يونيو 2016، أنها ترى في "القوى المؤيدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مؤشرا قويا لدينامية ربيع الشعوب". واعتبرت أن "لدى فرنسا على الأرجح أسبابا تفوق بكثير أسباب الإنكليز للخروج من الاتحاد الأوروبي"، معربة عن الأمل "في أن تجري جميع البلدان مراجعة لعلاقاتها بالاتحاد الأوروبي".
اسباب اقتصادية وراء رغبة الاتحاد الاوربي في بقاء بريطانيا معه
تتمثل رغبة الاتحاد الاوربي في عدم خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي في انها تنظر الى حجم الاقتصاد البريطاني على مستوى العالم ومدى اهميته في رفع مستوى الاقتصاد الاوربي، إذ يُعد الاقتصاد البريطاني من اكبر الاقتصادات في العالم -بناءً على بيانات البنك الدولي- إذ يحتل المرتبة السابعة اقتصادياً في عام 2011 بعد اقتصاد كل من امريكا والصين واليابان والمانيا وفرنسا والبرازيل، ثم احتل مرتبة البرازيل أي اصبح في المرتبة السادسة في عاميّ 2012 و2013، ثم بلغ المرتبة الخامسة في عاميّ 2014 و2015 بعد كل من امريكا والصين واليابان والمانيا، وهذا يعني انه اقتصاد متقدم ومستمر بالتقدم. وتمثل بريطانيا 16% من القوة الاقتصادية للاتحاد الاوربي، كما ان سكان بريطانيا يشكل 13% من سكان الاتحاد، وعدد السكان يفيد في توفير الايدي العاملة للاتحاد وخصوصاً اذا ما علمنا هي (الايدي العاملة البريطانية) ماهرة.
كما وان معدلات النمو الحقيقي للاقتصاد البريطاني قد ارتفعت من 1.9% في عام 2010، ومرورا بـ 1.6% و0.7% و1.7% في عام 2011 و2012 و2013 على التوالي، إلى ان بلغ 2.9% في عام 2014، وبالمقابل نلاحظ ان معدلات النمو الحقيقي لمنطقة اليورو التي تتكون من 17 دولة وهي جزء من الاتحاد الاوربي الذي يتكون 28 دولة، قد بلغت نسبتها 2.0% في عام 2010، ومروراً بـ 1.6% و - 0.8% و- 0.5% في عام 2011 و2012 و2013 على التوالي، وانتهاءً بـ 0.9%، وهذا ما يعني ان الاقتصاد البريطاني ينمو بوتيرة اسرع من الاقتصاد الاوربي وخصوصاً منطقة اليورو ليس هذا فحسب بل ان نمو منطقة اليورو آخذة بالانخفاض من 2.0% عام 2010 إلى 0.9% عام 2014 في حين ان نمو بريطانيا ارتفع من 1.9% في عام 2010 إلى 2.9%، أي ان الاقتصاد البريطاني ينمو بأكثر من ثلاث اضعاف نمو منطقة اليورو، فلو انسحبت بريطانيا من الاتحاد الاوربي ستؤثر على قوته الاقتصادية على مستوى الاقتصاد الاوربي وعلى المستوى العالمي.
آثار الخروج على الاقتصاد الاوربي
ان زيادة نمو الاقتصادي الأوربي -الذي يعاني من الانخفاض حالياً- الذي يعني زيادة في انتاج السلع والخدمات الاوربية في السنة الواحدة، التي تتطلب المزيد من الايدي العاملة البريطانية من اجل انتاجها، وفي نفس الوقت يحتاج الاقتصاد الاوربي مزيد من الاسواق لتصريف منتجاته الفائضة عن الحاجة المحلية وخاصةً اسواق بلدان الاتحاد الاوربي وخصوصاً السوق البريطاني على اعتبار ان سكان بريطانيا يحتل المرتبة الثانية بعد المانيا ضمن الاتحاد، فهو يبلغ 64.96 مليون نسمة الذي يشكل تقريباً 13% من سكان الاتحاد الاوربي البالغ 508.5مليون نسمة في 2015، وان بريطانيا تحتل المرتبة الخامسة اقتصادياً على مستوى العالم من ناحية، وهي احد اعضاء الاتحاد الاوربي وبالتالي تكون هناك انسيابية في حركة السلع والايدي العاملة من الاتحاد واليها من ناحية اخرى، ولهذا فخروج بريطانيا يمثل خسارة الاقتصاد الاوربي للسوق البريطاني.
تعد بريطانيا شريكاً تجارياً مهماً بالنسبة للاتحاد الاوربي، إذ تشكل الصادرات الاوربية لبريطانيا 3% من الناتج المحلي الاجمالي في المتوسط ما بين 2010 و2014، كما ان 50% من الصادرات البريطانية تذهب الى دول اوربا، واقل من 5% تجري الشركات البريطانية عمليات تجارية مع الاتحاد الاوربي، وبالعموم سيتأثر الاقتصاد الاوربي في حال خروج بريطانيا من الاتحاد. وجدير بالذكر ان الميزان التجاري يتمتع بفائض تجاري لصالح الاتحاد الاوربي، أي ان الاتحاد الاوربي يصدّر لبريطانيا أكثر مما يستورد منها، ويقدر حجم الفائض بـ 56 مليار جنيه استرليني، فنمو الاتحاد الاوربي يتأثر سلباً في حال خروج بريطانيا من الاتحاد وبالتالي فانه ليس من مصلحة الاتحاد وضع حواجز جمركية بل الافضل له عقد اتفاقيات تجارية معه.
تخسر موازنة الاتحاد الاوربي 9 مليار جنية استرليني سنوياً عند خروج بريطانيا من الاتحاد، اذ ان بريطانيا تدفع 19 مليار جنيه وتحصل على 10مليار جنيه عبر قنوات مثل دعم الزراعة، ولكن اذا ارادت بريطانيا الوصول الى السوق المشتركة فعليها ان تستمر في دفع التعويضات للاستفادة من هذه الميزة، التي تصل الى 3.5 مليار جنيه استرليني تقريباً، وعلى هذا النحو تخسر موازنة الاتحاد 5.5 مليار جنيه استرليني.
خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي يعني حرمان الاقتصاد الاوربي من الصدارة على مستوى العالم وفقدان هيبته وقلة ثقة المستثمرين فيه، كما يعني ايضاً زيادة القيود على انتقال الاشخاص والسلع والخدمات التي تنتقل الى بريطانيا، فعلى سبيل المثال ان ألمانيا لا تستفيد فقط من السوق الموحدة عندما تبيع السيارات إلى بريطانيا، بل تستفيد أيضاً عندما تصنع السيارات. إذ إن الصناعة الألمانية بشكل عام تعتمد على الحدود المفتوحة وحرية تنقل الأشخاص والسلع والخدمات، وما يؤكد هذا الكلام في حالة الخروج هو دراسة المنظمة البحثية الألمانية التي توصلت إلى "ان الاقتصاد الالماني سيتكبد خسائر تتراوح ما بين 6.2 مليار استرليني و41 مليار استرليني"، لذلك فإن معظم النخب السياسية والتجارية ودعاة تحرير الأسواق لن تكون سعيدة بخروج بريطانيا المحتمل من الاتحاد الأوروبي.
كما يمكن ان يجعل خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي، الاقتصاد الاوربي معرضا للانهيار في المستقبل بسبب ان البلدان الاخرى سترغب بالانسحاب من الاتحاد كما فعلت بريطانيا لو صوت الشعب البريطاني بعد يومين على الخروج من الاتحاد الاوربي وخصوصاً اذا ما لاحظت البلدان الاخرى ان بريطانيا بعد انسحابها من الاتحاد قد تطورت وتقدمت بشكل افضل مما كانت عليه سابقاً ضمن الاتحاد، وهذا ما يدفع بالسوق الاوربية الموحدة الى حالة من الفوضى.
بناءً على ما تقدم يمكن القول، ان الافضل لبريطانيا هو الخروج من الاتحاد لكسب المزايا الايجابية حتى لو تضمن الخروج بعض المزايا السلبية، مادامت الايجابية افضل واكبر، وبالمقابل ينبغي على الاتحاد الاوربي التعاطف مع بريطانيا والاستجابة لشروطها من اجل عدم خروجها لمصلحة الطرفين، وفي ظل اصرار الشعب على الخروج ينبغي عقد المزيد من الاتفاقيات التجارية بين الطرفين لضمان استمرارية الفوائد، وخصوصاً للاتحاد الاوربي.
وسوم: العدد 681