شيوخ ظرفاء

عبد السلام البسيوني

الحق أن الشيوخ الحقيقيين هم أطلق الناس وجهاً، وأكثرهم ظرفاً وأحضرهم بديهة، وألذعهم تعليقاً، ولا ينبئك مثل البسيوني.

قال صلى الله عليه وسلم:

تبسمك في وجه أخيك صدقة (صحيح الترمذي).

.... فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه (البخاري).

وقال صلى الله عليه وسلم:

لا تحقرن من المعروف شيئاً؛ ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق (مسلم).

إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم؛ فليسعهم منكم بسط الوجه، وحسن الخلق (مسلم)

ضحك الله الليلة، أو عجب، من فعالكما (البخاري).

تقديم بقلم الساخر الكبير جعفر عباس

قبل نحو ستة أشهر من تسلمي مسودة هذا الكتاب، كنت قد حاورت مؤلفه الشيخ عبد السالم البسيوني، في سياق حلقة تجريبية (بايلوت) لبرنامج في قناة الجزيرة الفضائية..

والبسيوني رجل مصري من فئة "سبع صنايع والبخت ضايع"؛ فهو داعية إسلامي معروف في منطقة الخليج والجزيرة العربية، وخطيب، ومعد برامج إذاعية وتلفزيونية، وخطاط، وكاتب صحفي، وله عشرات المؤلفات، بعضها منشور، والبعض الآخر مقبور...

 ما علينا: تناولت تلك الحلقة، مسألة الدعاة الجدد، وكيف أن بعضهم سحب البساط من تحت أقدام الدعاة التقليديين المنبريين.. فوافقني البسيوني الرأي في أن الناس ينفرون من الداعية أو الخطيب أبو دم تقيل، الذي غالب كالمه الثبور والويل، ويكون وقع ذلك على المستمعين كوقع الحجارة التي من سجيل على أصحاب الفيل.. وتحدثنا عن أهمية اللطف والظرف والدعابة المهذبة عند تقديم المواعظ والدروس، وكيف أن المشايخ الظرفاء محببون الى القلوب، وقادرون بالتالي على "كسب" العقول!

وإذا بالبسيوني يفاجئني قبل أيام بمسودة هذا الكتاب، وفكرته مسروقة بالمسطرة من الحوار الذي دار بيني وبينه (ولدي شريط فيديو يثبت ملكيتي – على الأقل – للفكرة المحورية في هذا الكتاب) ومع هذا وتقديراً  لـ"بجاحته" فقد قبلت كتابة مقدمته، ولو كان البسيوني يفهم في فنون التسويق ووضع صورتي على غلاف الكتاب بدال من صورته، فسيكون لهذا الكتاب شأن وأي شأن) في الكتاب ستجدون حكاية الشيخ السعودي الذي اتصل به شخص خلال برنامج تلفزيوني ليشكو له من أن زوجته عرجاء وعمشاء وحدباء... إلخ فما كان من الشيخ إلا أن قال له ما معناه:

كلنا في الهوا سوا!

وشيخنا عبد السلام من النوع الذي تلتقي به لدقائق معدودة وتقع في حبه، لا لوسامة فيه، أو ثروة يحوزها (فهو على الصعيدين من مستحقي الزكاة)، ولكن لأنه رجل حبوب وبشوش وفاهم ومصحصح وبسيط (وفي نفس الوقت غويط) والكلمة الأخيرة قد يبدو لفظها نابياً، ولكنها تعني عند المصاروة "العميق".. البحر الذي في أحشائه الدر كامن! فهو ظريف وفكه ومرح ولكنه يوظف تلك الموهبة لتوصيل فكرة أو لتأليف القلوب..

ومنذ أن عرفته وهو يمقت التنطع والتقعر في اللغة وأمور الدين والدنيا، ولا يرى بأساً - وهو الخطيب المفوه، المالك لناصية اللغة العربية، والقادر على استيلاد حيل بالغية خاصة به - في أن يأتي بعبارات باللغات الدارجة، بل ويتعمد الإكثار من الاستشهاد بالأمثال الشعبية؛ باعتبار أنها ذاكرة الشعوب، ومستودع حكمتها.

حدث نفور بيني وبين مدرسي العلوم الدينية في المدرسة الابتدائية، فمدرس "الدين" كما كنا نسميه، كان يكلفنا بحفظ سور قرآنية معينه لنقوم بـ"تسميعها"، أي قراءتها من الذاكرة في وقت الحق، وكانت قلة من التلاميذ تسلم من الجلد بسبب التسميع، كانت مناهج العلوم الدينية تقوم على التلقين الببغاوي، على أيدي خريجي الكتاتيب (تسمى في السودان الخلاوي) والمعاهد الأزهرية المتوسطة.. كان كل شيء قائماً على الحفظ وحده: نواقض الوضوء هي ما يخرج من السبيلين والنوم الثقيل وزوال العقل و.... ولم أعرف ما هما "السبيلين"، إلا وأنا في المدرسة الثانوية.. وفي الوضوء لم أكن أفهم المقصود ب"الفور والدلك".. ولكن كان واجباً علينا أن نردد

الكلام عن السبيلين والفور والدلك دون فهم، لأن واضعي المنهج لم يكونوا معنيين سوى بالتلقين.

 ثم انتقلنا إلى المراحل المتوسطة والثانوية، حيث كان مدرسو الدين يرتدون الكاكولة/ الجبة/ القفطان، وكان منهج التربية الإسلامية يعاني من الشد العضلي، ويسبب الشد النفسي والعقلي: مقدار الزكاة ربع العشر.. وفي زكاة الإبل هناك بنت لبون وجذعة.. وما يزال أبناء جيلي يعانون من عقدة سورة "المطففين"، ولو كلف مدرس نفسه عناء شرح كم هي حبلى بالمعاني هذه المفردة، وكيف أن السورة تؤسس للعدل في التجارة والمعاملات العامة لما تحولت إلى بعبع، بسبب التسميع القائم على غير فهم ووعي بالمعاني.

كنا نتعامل مع مدرسي التربية السالمية على أساس أنهم دراويش، أو خارج التغطية (بلغة عصر الموبايل) بسبب زيهم وهندامهم العجيب، ولأنهم كانوا يشغلون أدنى مراتب السلم الوظيفي في وزارات التربية (لسنوات طوال، فبعد أن عرفت الدول العربية ما يسمى بالنظام التعليمي لم يكن مسموحا لهذه الفئة من المدرسين شغل مناصب النظار/ المدراء).. ولم تقصر السينما المصرية في الاستخفاف بمدرسي اللغة العربية والدين؛ إذ كانوا يظهرون على الشاشات كأشخاص متكلسين، ثقيلي الظل والدم، ولا علاقة لهم بالعصر، بل وبلهاء يتكلمون كما العالم النحوي الذي سأل خادمه: أصعقت العتاريف؟ فرد الخادم: زقفيلم! فسأله النحوي: وما زقفيلم؟ فرد عليه الخادم بالسؤال: وما صعقت العتاريف؟ أجابه النحوي: هل صاحت الديكة؟ فقال الخادم: عندئذٍ فإن زقفيلم تعني "نعم"!

والمشايخ الظرفاء الذين يتناولهم البسيوني في كتابه هذا، يكادون جميعاً أن يكونوا من ذوي الشهرة والمكانة العلمية العالية، ولا شك عندي في أن البسيوني تعمد أن يقدم الوجه الآخر لهم لنعرف أن عالم الدين ليس بالصورة النمطية المغروسة في أذهاننا، بل هم أهل دعابة وظرف حتى وهم يخوضون في قضايا شديدة الجدية والحساسية، ولا يجدون حرجاً في التفكه وهم يخاطبون "العوام"!

ستفاجأ في الكتاب بالشيخ الدكتور يوسف القرضاوي يقول قصيدة غزلية طويلة في حسناء من قنا، وقبل أن تصيح "قفشتك يا موالنا"، تكتشف أنه يتغزل ب"قلة" وهي الوعاء الفخاري المخصص لحفظ وتبريد الماء واشتهرت به قنا في مصر..

وستعرف من هذا الكتاب سر الخصومة بين القرضاوي والفاصوليا! وهناك الشيخ الدكتور السعودي عبد الله المطلق صاحب الصولات والجولات في وسائل العالم والمنابر، الذي سأله سائل: هل يجوز أكل لحم البطريق؟ فرد عليه: إذا لقيته.. ُكله!

وسألته امرأة: هل يبطل وضوئي إذا غسلت المواعين؟ فرد عليها: ليه؟ هي المواعين تبول؟

وهناك الشيخ عبد الحميد كشك الذي كان الناس يتداولون خطبه على أشرطة الكاسيت سراً، لأنه كان من المغضوب عليهم من قبل السلاطين؛ لأنه كان يجلدهم بالسياطين (جمع مذكر سالم جديد مفرده سوط).. يؤم آلاف المصلين في المسجد ويدعو الله أن يبارك الجالسين في الصفوف الثانية والثالثة والرابعة، ولما سألوه لماذا استثنى جماعة الصف الأول قال: لأنهم "مخابرات".. والشيخ ابن عثيمين رحمه الله ياما سمعنا عنه أنه سلفي متشدد وبالتالي عبوس متجهم!! اسمع ماذا قال لرجل شرب مقلباً عندما اكتشف أن المرأة التي تزوج بها بلا أسنان، فنصحه ابن عثيمين ألا يفرط فيها "لأنها لا يمكن أن تعضك"!

 ومن منا لا يذكر مجالس العلم المتلفزة للشيخ الشعراوي؟ كان يفسر لنا القرآن وكأنه جالس معنا على دكة و"يتونس"، ومن هنا اكتسب شعبية لم يظفر بها إلا قلة من رجال الدين.. ابن بلد وفالح بس فصيح ودمه شربات: ما يلزم الرجل ليتزوج بثانية؟..

إنه يكون راجل ويقدر يعملها!!.. وكان وزيراً للأوقاف في عصر السادات، وفي حفل على شرف الرئيس الروماني نيكوالي شاوشيسكو، كان هناك رقص وغناء، فجلس الشعراوي وظهره للمطربة، فأرسل له السادات وزير الداخلية ليقول له: الرئيس بيقول لك اتعدل، فرد الشعراوي بعفوية: أنا برضو اللي اتعدل؟ ثم ترك الحفل!

والشاهد يا جماعة: هذا كتاب ممتع، وظل البسيوني يلاحقني على مدى أسابيع لأوافيه بـ"المقدمة"، وتلكأت وتباطأت كثيراً لأنني قرأت بعض فصول المسودة خمس أو ست مرات، وكنت أعرض صفحات منها على أفراد عائلتي وزملائي في العمل ثم أكتشف أنهم احتفظوا بها، بل وهناك من اختلس المزيد من الصفحات، فأعود إلى الكمبيوتر، وأعيد طباعة الأجزاء المسروقة، ثم أقرأ وأضحك و"تتلخبط" الصفحات فأعيد ترتيبها أو طباعتها!

 وبالمناسبة فهذا ليس أول كتاب للبسيوني أكتب مقدمته، فللرجل مؤلفات أكثر مما تبقى في رأسه من شعيرات، ولكنه "بايعها".. قلت له إنني سأرتزق بمحتويات الكتاب بنشره كمقالات يومية فكان رده: بالهنا والشفا.. أصلاً أنا حانزله في الانترنت ككتاب إلكتروني ليكون متاحاً للجميع..

وبما أنني من أنصار الكتاب الورقي، فإنني أناشده أن يصدر "مشايخ ظرفاء" هذا ككتاب تقليدي، أي مطبوعاً على الورق، وأضمن له الرواج الكاسح إذا أحسن اختيار الناشر.. وبالتالي أضمن له "تكوين النفس" من مبيعات الكتاب.. ومتنازل عن العمولة يا شيخنا.. يكفيني شرفاً أن أجد اسمي قرين اسمك في كتاب كامل الدسم، وخال من الكولسترول في نفس الوقت...

 ثم إن "بسيوني إلكتروني" ما تجيش.. ما تزبطش!!

وسوم: العدد 681