هاشم الرفاعي العبقري: ما خلاص أزهر إيه يا عم!

د. عبد السلام البسيوني

كان عبقرياً بكل ما تعنيه الكلمة، وملأ الدنيا ضحكاً وشعراً وهزلاً وجداً قبل أن يغتالوه في مطلع شبابه، ولم يتجاوز الرابعة والعشرين.

ديوانه كبير يزيد على خمسمائة صفحة، في منتهى الثراء والقوة والتنوع المدهش بالنسبة لشاعر لم ينه دراسته الجامعية، ولما يدخل معترك الحياة، وإن كان منذ صغره متوقد العقل، مستيقظ الحس، مشحوذ الوعي والوجدان..

إنه الشاعر الفحل، والمفكر ذو الدم الخفيف هاشم الرفاعي الأزهري الدرعمي اللغوي الثائر الساخر، الذي يعنينا منه في هذه الزاوية جانبه المرح، حين يرسل الطرفة شعراً رائقاً لذيذاً مطرباً، كما يرسله سيفاً موجعاً قاطعاً، كما يمزج الهزل بالدمع السخين، والشجو الحزين، ليعطيك نوعاً من الكوميديا السوداء ذات الطعم المر، وسأسوق هنا نماذج من شعره الساخر ومن كوميدياه السوداء، ولك قارئي العزيز أن تحكم على هذا الفتى الأزهري العجيب الذي انتشر في مطالع شبابه بسرعة الصاروخ، ليثير قلق شياطين رأوا أن الخير في أن يقتلوه قبل أن يذوق طعم الحياة، ليحرموا الأمة شاعراً منعدم النظير، فدعني أبدأ بهذه القصيدة الوجيعة، ولك وعد بعد ذلك أن تطرب من خفة دمه وروعة أدائه:

لما كتب الأمير شوقي قصيدته عن الأزهر:

قم في فم الدنيا وحي الأزهرا            وانثر على سمع الزمان الجوهرا

واجعل مكان الدرِّ إن فصلتَهُ            في مدحِه خرزَ السماءِ النيِّرا

ولما رأى الرفاعي حال الأزهر، وضعف أدائه وجمود بعض مشايخه وتخاذله في المواقف الجادة الفاصلة، كتب غير مبالٍ بما يمكن أن يواجهه به بعض المشايخ:

قف في ربوع المجد وابك الأزهرا          واندبه روضاً للمكارم أقفرا

واكتب رثاءَكَ فيهِ نفثةُ موجَعٍ              واجعل مدادَكَ دمعَك المتحدرا

المعهد الفردُ الذي بجهاده                 بلغت بلاد الضاد أعراف الذُّرَى

سار الجميع إلى الأمام وإنه              في موكب العلياء سار القهقرَى

لهفى على صرحٍ تهاوى ركنه             قد كان نبعاً بالفخار تفجَّرا

من كان بهجةَ كل طرفٍ ناظرٍ          عادت به الأطماع أشعث أغْبَرَا

ما أبقت الأيدي التي عبثت به           من مجدِه عرضاً له أو جوهرا

ويتذكر شيئاً من أمجاد الأزهر التي يتباهى بها قومه، دون أن يتخذوها منهجاً، أو ينتفعوا بها، أو يخدموا أنفسهم وأزهرهم ومصرهم وأمتهم:

لله ما أروي له في الشرق من              مجد على الأيام واراه الثَّرَى

كم موكبٍ في مصر سار إلى العلا        قد كان قائد ركبه المتصدِّرَا

عجباً أيدركه الأفول لدى الضحى          من بعد ما نشر العلوم مبكرا

سل مهبط الثورات عنها .. إنه             قد كان ناديَها .. وكان المنبرا

المشعلون لنارها أبناؤه                     تَخِذوا به جنداً هناك .. وعسكرا

والمضرمون أوارها بُلَغاؤه                  في نشر روح البذل فاضوا أنهرا

من كل ذي حِجْرٍ لخير بلاده             رسم المكيدة للدخيل ودبَّرَا

لا ينثني عن بعثها دمويةً                أو يدركَ النصرَ المبين مظفرا

ثم يتحدث عن شيوخ للأزهر كانوا نماذج للعلم والاستقامة والوطنية والغيرة، معرضاً بغيرهم من المرتزقة والمنتفعين ولاعقي الأحذية:

سل موئل الأفذاذ من أشياخه              عن معشرٍ كانوا به أُسْد الشَّرَى

العاملين لرفعة الإسلام ما                 منهم كَهامٌ قد ونى .. أو قصَّرا

والمبتغين رضا الإله وما ابتغوا            من حاكمٍ عرَض الحياة محقّرا

كانوا المنار إذا الدياجي أسدلت           ثوبَ الظلام هدى الأنام ونوّرا

كانوا لمن ظُلموا حصون عدالةٍ           كانوا الشكيم لمن طغى وتجبَّرا

ردُّوا غواة الحاكمين، وغيرُهم              لتملق الأهواء كان مسخرا

لرضائها يبدي الحرام محللاً               ويدكّ معروفاً .. ويبني منكرا

في وجهها وقفوا وهم عزّلٌ وما            لبسوا سوى ثوب الهداية مِغْفَرا

وإذا رأى منهم هُمام ريبةً                 ناداه داعي دينِه أن يزأرا

ما قامروا بالدين في سبل الهوى          كلا ولا تَخِذوا الشريعة متجرا

عاشوا أئمة دينهم وحماته                لا يسمحون بأن يباع ويشترى

ثم انطوت تلك الشموس وإنها            لأشد إيماناً وأطهر مئزرا

ثم يعرِّض بمناهج الأزهر السقيمة الخيبانة، التي لا تبني ديناً ولا دنيا:

إن كان مجد الأمس لم نلحق به          أفلا نود غداً نصيباً أوفرا؟

هذي العلوم وحشوُها لغو به              من كل جيل لا يزال مسطرا

علم نعالجه بفكر جدودنا                 يبدو به الهذر القديم مكررا

إنا نريد من التقدم قسطَنا                ونريد للإسلام أن يتحررا

ونريد أن نسقي الفنون رفيعةً             تجدي وليست طلسماً متحجرا

ما العلم إلاّ ما تراه لديك في             لُجَجِ الحياة إذا مضت بك مثمرا

أنى لمن ألفت نواظره الدجى             عند الخروج إلى السنا أن يبصرا

قد كان تنقيح العلوم وفحصها            بالبحث من فرض العمامة أجدرا

ويطالب الأمة أن تعيش عصرها، وتواجه أزماتها، وتأخذ مكانها بين الأمة نهضة وعلماً وقوة:

للمَخبر انتبهوا ولا يعنيكم                 من بعد هذا أن نبدل مظهرا

أنكون في دنيا الرقي نعامة               نخفي الوجوه وقد عرانا ما عرا

ما ضرني إذ نحن نخدع نفسنا            لو قلت ما أدري وفهت بما أرى

ليس التعصب للأبوة مانعي               من أن أقول الحق فيه وأجهرا

أترى تعود إلى المريض سلامةٌ            أم تصرع الأسقام من قد عُمَّرا ؟

ترى ماذا لو عاش الرفاعي – الذي اغتيل قبل أن يتخرج من الجامعة عام 1959 – ليرى الأزهر الآن، ويشهد ذلته وهوانه، وافتئات الذباب والهوام عليه، واجتراء العميان والمخابيل والخونة والأرزقية والمطبلاتية وتجار الأعراض على رجاله ورسالته وما يمثله .. فماذا كان سيقول هاشم الرفاعي رحمه الله؟

حسبك قارئي العزيز أن تعرف أن مصر كلها بكت هذا الشاب العبقري، بكاءً موجعاً، وممن كتبوا في رثائه الأستاذ الشاعر علي الجندي أستاذه وعميد كليته - دار العلوم - وكان يتنبأ له أن يصبح أشهر شعراء العربية في العصر الحديث، فقال:

لهف نفسي علي الصبا المنضور            لفّهُ الغدرُ .. في ظلام القبورِ

لهف نفسي علي القريض المصفى          صَوَّحت زهرَه عوادي الشرور

لهف نفسي على النبوغ المسجى             برداء من البلى .. والدثور

الله يرحمك يا رفاعي.. ومع شعرك الساخر في فقرة قادمة..

وسوم: العدد 683