يَهْوَه/ الإله الطَّوْطَم!
رُؤى ثقافيّة 221
كان سبب تأليف «العهد القديم»، وتدوين الكهنة بعض الذكريات التاريخيَّة فيه، والمحفوظات القوليَّة المتوارثة المرويَّة، هو قلقهم- بعد قرونٍ متطاولةٍ من الحروب، والسَّبْي، والتشرُّد- من ضياع ذلك التراث، وملاحظتهم أن بعض الشعب اليهودي شارعٌ في الارتداد عن عبادة (يَهْوَه)، وبعضه ذاهبٌ في اعتناق آلهة أجنبيَّة. إذ ذاك أخذ الكهنة يتساءلون عن السبيل إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فرأوا ضرورة وضع حدٍّ لتدهور عقيدتهم القوميَّة، وبعث ذلك التراث من سراديب التاريخ؛ كي يكون مرجعًا روحيًّا ومعرفيًّا يَؤُوْل إليه اليهود. فكان تصنيف تلك الأسفار، وجعلها بين دفَّتَي كتابٍ، هو «العهد القديم». ولم تأخذ «التوراة» وسائر أسفار «العهد القديم» صورتها المعروفة قبل العام 300ق.م.
وقد كانت الأساطير السومريَّة، والبابليَّة، والفارسيَّة، وغيرها- ممَّا أظهرته الكشوف الأثريَّة في العصر الحديث- معينًا خِصبًا نَهَلَ منه الكهنةُ بعض القصص المسرودة في «العهد القديم»، مُضْفِيْنَ عليها الطابع الخاصّ للثقافة اليهوديَّة، ولا سيما ما يتعلَّق بالتكوين، وقِصَّة خَلق آدم، ودَوْر حوَّاء وإبليس في إخراجه من الفردوس.(1)
أمَّا أتباع «التوراة» اليوم، فكأتباع كلِّ عقيدة عالميَّة، لا علاقة لهم بتاريخها بالضرورة، ولا بالأعراق التي نشأت تلك العقيدة بين ظهرانيها. ذلك أن هؤلاء الذين يحتلُّون (فلسطين) الآن ليسوا بعبرانيِّين، ولا إسرائيليِّين، ولا يهود. ليسوا بعبرانيِّين؛ بالنظر إلى مَن أُطلِق عليهم هذا اللقب قديمًا، ولا بإسرائيليِّين؛ نسبةً إلى (يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)، ولا بيهود، منتسبين إلى بيت (داوود). ومن هنا فليسوا بساميِّين أصلًا، وإنَّما هم أوربيُّون شرقيُّون، من الخَزَر(2)، المنغول- متسنِّمين في فلسطين قيادة الكيان الاحتلالي- من تحتهم شعبٌ ملوَّنُ الأعراق(3)، مستعبَدٌ من (تاميل)، و(أحباش)، و(ألمان)، وغيرهم، لا يعرفون فلسطين، ولم يطأ أسلافُهم ثراها يومًا، قبل إحلالهم فيها ببَغْيٍ غربيٍّ، منافقٍ سياسةً وإديولوجيا، اتَّخذ الاستعمارَ، ودَعْمَ الاستعمار، حِرفةً تاريخيَّة.(4) وإنَّما تربط هذا الخليط الغريب عقيدةٌ دِينيَّةٌ، وإديولوجيَّةٌ سياسيَّةٌ صهيونيَّةٌ ملفَّقة، تضع الانتماء الدِّيني سُلَّمًا لاحتلال الأوطان، تحت ذريعة أن كتابهم الدِّيني كان يتحدَّث عن تاريخٍ وعن جغرافيا، قبل ثلاثة آلاف عام، مَثَّلا إذ ذاك الحاضن الشعبي لأتباع الدِّين اليهودي. هذا على الرغم من أن ذلك الحاضن القديم إنما احتلَّه أولئك الأتباع القدماء أيضًا، وبشهادة كِتابهم. بَيْدَ أنه كان احتلالًا مسوَّغًا، من وجهة روايتهم، ما دام ذا دمغةٍ إلاهيَّةٍ، ما ينبغي أن تُتلقَّى إلَّا بالقبول والإذعان، لا تُرَدّ حقوقيًّا ولا تُناقَش عدليًّا. كيف وقد «ظهر الربُّ» شخصيًّا ليقدِّم مِنحته مناولةً إلى (إبراهيم)؟ وهذا الربُّ هو ربُّ (بني إسرائيل) الخاصّ، الذي يعُدُّ نفسه وجنوده عائلةً واحدة. يصحبهم في حِلّهم وترحالهم، وفي حربهم وسلمهم، ويَظهر لهم مباشرةً على الجبال(5)، متى شاء أو متى شاؤوا، ويخاطبهم هكذا بلا حجاب ولا رسول، ويُمارس المصارعة الحُرَّة مع بعضهم أحيانًا، ليُروِّض أبناءه وأحبَّاءه على القوَّة والشراسة اللازمين؛ فلا «تكليف» بين ربٍّ وأهل بيته، ولا بين حاكمٍ وشعبه المختار! وليس ذلك، إذن، بالربِّ الذي نعرفه، والذي قال لموسى: «لن تراني». إنه ربٌّ قَبَليٌّ، ومتعصِّبٌ لقبيلته جِدًّا، ويَنظر إلى أفرادها بوصفهم أبناءه، فيميِّزها عن سائر الخَلق. تارةً يرضَى عنها فيُنزل عليها المنَّ والسَّلوى، وتارةً ما يلبث أن يسخط فينقلب عليها نِقمةً إلاهيَّةً تليق بجبروته، كما صوّروها، فيلعنها ويسحقها سَحقًا، أنبياءها وكهنتها وأطفالها ونساءها، عامَّتها وخاصَّتها، وحتى حيواناتها وأشجارها وأرضها! فكيف تُراه سيفعل بسِوى شعبه الحبيب من الشعوب الأُمميَّة؟!
إنه (يَهْوَه)، في النهاية، ربُّ (بني إسرائيل) العجيب، لا ربّ العالمين. ربٌّ لم يكن يختلف كثيرًا عن أرباب الوثنيِّين في ذلك العصر، ولا عن مُلوكهم وجبابرتهم وطُغاتهم. هو طَوْطَمٌ قَبَليٌّ، وهو طاغيةٌ، دمويُّ النزوع، لا ينتشي لأمرٍ كما ينتشي بسفك الدماء، البشريَّة أو الحيوانيَّة. تُقام له المذابح، وتُصْعَد المُحْرَقات، «رائحةَ سرورٍ للربّ»(6)- كما يتردَّد في «التوراة»- شُكرًا أو استرضاءً؛ «فَيتَنَسَّم الرَّبُّ رَائِحَةَ الرِّضَى»(7)، حين يشمُّ اللحومَ المشويَّة، أو يرى الدماء المسفوكة، فيُسَرَّى عنه، ويرضَى فيغفر ما تقدَّم من ذنب! وهذا شأن الطقوس البدائيَّة المعهودة لدى الوثنيِّين في التقرُّب إلى الأنصاب، من الأصنام والأوثان وسائر المعبودات.
هكذا ترَّسخت صورة الخالق، وَفق الأساطير الإسرائيليَّة، وتسرَّبت إلى ثقافاتٍ أُخَر. وعليها تأسَّست نظرة اليهود إلى الحاكميَّة الكونيَّة، وإلى أنفسهم، وإلى الشعوب الأخرى. نظرة استعلاءٍ عنصريَّة، لا عقلانيَّة ولا إنسانيَّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: ديورانت، وِل وايريْل، (1971)، قِصَّة الحضارة- الشرق الأدنى، ترجمة: محمَّد بدران (بيروت: دار الجيل)، ج2 م1: 356؛ 366- 384.
(2) انظر ما جاء في تحليل هذا الادِّعاء لدَى: السقَّاف، أبكار، (1997)، إسرائيل وعقيدة الأرض الموعودة، (القاهرة: مكتبة مدبولي)، 36- 41.
(3) ولا غرابة؛ ما دام الغرب المسيحي ينهل من المَعين التوراتي عينه، ويَعُدّ «العهد القديم» جزءًا من كتابه المقدَّس، يتقرَّب إلى (الأب، والابن، والرُّوح القُدُس) بنُصرة اليهود، ظالمين أو مظلومين! هذا دِينٌ سياسيٌّ، لا هوادة فيه، وسياسةٌ دِينيَّةٌ، تسري من الهويَّة الغربيَّة مسرَى الدماء.
(4) غير أنَّ ربَّهم هذا ما لبث أنْ أدرك، بعد حادثة العِجْل، أنَّ تعاليه في الجبال غير مُجْدٍ، وأنَّه لا بُدَّ من التنازل كثيرًا؛ لأن القوم ما لم يجدوا إلاههم ملموسًا بينهم، ستعبث بهم الذكريات والحنين فيلتمسون لهم إلاهًا آخَر. من هنا جاءت فكرة أن يعيش (يَهْوَه) وسط شعبه، في «خيمة الاجتماع»، المُعَدَّة خصِّيصًا له، ثمَّ في «التابوت»، الذي يصطحبونه بين ظهرانيهم، سِلمًا وحربًا. وإنْ كانوا أحيانًا يُفلتونه لأعدائهم فارِّين إذا حمي الوطيس، كما رأيناهم يفعلون في غزوهم (مكَّة). (انظر: ابن مُنَبِّه، (1347هـ)، التيجان، (حيدر آباد الدكن- الهند: دائرة المعارف العثمانيَّة)، 179- 180).
(5) انظر مثلًا: سِفر الخُروج، 29: 18، 25، 41؛ سِفر اللاويّين، 1: 9، 13، 17. و«العهد القديم» موسوعة- شرِهةٌ جِدًّا- في الأطعمة والمآكل ، ولاسيما في ذبح قطعان المواشي وكيفيَّات الطبخ والشيّ، وطقوس توزيع الدماء، تحت ذريعة القرابين الكثيرة والكفَّارات التي لا تنتهي؛ ممَّا يذهب في النهاية إلى كُروش الكهنة وأقربائهم ومقرَّبيهم!
(6) سِفر التكوين، 8: 21.
#فلسطين #التوراة #يهوه #الطوطم #التاريخ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «يَهْوَه/ الإله الطوطم!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الثلاثاء 23 أغسطس 2016، ص30].
وسوم: العدد 683