البعير الأهبل !

قليل من الناصريين كانوا على مستوى الضمير اليقظ الحي ، فعارضوا الانقلاب العسكري الفاشي الذي أطاح بالديمقراطية وإرادة الشعب ، ورأوا أن ثورة يناير كانت نفحة إلهية لينال الشعب حريته ويحكم نفسه بلا خوف ولا رعب ولا سجون ولا معتقلات يغيّب فيها الأحرار والشرقاء .

كثير من الناصرين كانوا بيادة في قدم الانقلاب الباطشة . دعوه ليسقط الرئيس المنتخب ، ويصادر الإرادة الشعبية ، ويحول المجتمع إلى طابور خانع تحت أوامر جنرال لا يؤمن بغير العصا الغليظة . هؤلاء تجد تفكيرهم عاطفيا لا يؤمن بالعقل ولا المنطق ولا الواقع ، وبالطبع لا يفقه المستقبل ولا يفكر فيه ..

اقرأ مثلا ما يقوله حمدين صباحي الذي ترشح سنيدا في انتخاب قائد الانقلاب ، وحصد المركز الثالث بعد الجنرال والأصوات الباطلة :

" .. كلنا ناصريون حتى لو لم ندر أو لم نقبل وفعلا مكننا جمال عبد الناصر، كما قال هو مرارا، حتى ولو انفصلنا عنه أو رفضناه كشخص أو كإنجاز، وكل حاكم بعد عبد الناصر لا يملك أن يخرج على الناصرية ولو أراد ، إلا وخرج عن المصرية. الناصرية هي بوصلة مصر العظيمة. " . ( 2/11/2015).

وهذا كلام بعيد عن العقل والمنطق وطبيعة الحياة والتغيير ، ويعبر عن جمود عقلي وفكري وسياسي ، يمتد إلى من يفترض أنهم أكثر ثقافة وعلما ووعيا ، مثل الدكتور جابر عصفور الذي يدعي وصلا بالناصرية مع أنه كان مقربا مع أستاذته سهير القلماوي من حرم السادات ، ومجالس السيدة سوزان حرم مبارك ومؤتمراتها وشارك في حكومة اللواء أحمد شفيق، وداس على جثث الشهداء في ثورة يناير قبل سقوط مبارك ليحلف اليمن وزيرا للثقافة لمدة عشرة أيام ، ووزيرا في حكومة الانقلاب لمدة شهور ، وفي أثناء ذلك كله صدّع رءوسنا بالحديث عن الحرية والاستنارة والدولة المدنية في مواجهة الدولة الدينية أي دولة الإسلام وليس دولة العسكر التي تماهي معها وتقرب إليها بالنوافل ، وهو يطالع بأم رأسه آلاف الشهداء الذين قتلهم الانقلاب في رابعة والنهضة والفتح ورمسيس والمنصة والحرس الجمهوري والشوارع والميادين والمدن والقرى ، وعشرات الألوف من الشرفاء والنبلاء بينهم مئات من زملائه أساتذة الجامعات الذين لم يجزع لاعتقالهم وتعذيبهم والحكم على كثير منهم بالإعدام ، بل بدت بعض كتاباته تسوغ ما يلحق بهم من مظالم وعذابات لا يستحقونها وما يلحق بالشهداء من موت!

ولفت نظري أن جابر عصفور وهو يخوض غمار التبرير والتسويغ لمقتل عشرات الألوف من الشهداء والأسرى ومصادرة الحريات  والأموال والمستشفيات والمدارس والجمعيات ، أن منهجه يتطابق مع ما يقوله معلق في إحدى الصحف الإلكترونية  سمى نفسه " البعير الأهبل " . وتبدو  تعبيراته ممزوجة بشيء من الفكاهة المقبولة ، وإن كان ما يجمع بينه وبين عصفور والكثرة من الناصريين هو تعطيل العقل !

نشر عُصفور مقالا يؤيد قائد الانقلاب بمناسبة مرور عامين على  رئاسته في ملحق أصدرته “الأهرام”  بعنوان ” التحدي .. عامان في مسيرة وطن” ، وزعم أنه يؤسس لنهضة مصر الجديدة التي ستعود لدورها الريادي والقائد في الوقت نفسه . ثم صبّ عصفور غضبه العارم على الإخوان المسلمين، مدعيا أن المصريين اكتووا بحكمهم خلال العام (!!) الذي تولوا فيه الرئاسة.

وتابع عصفور: ” لا يمكن مثلا أن نقارن بين حكم الجنرال وحكم الإخوان الذي اكتوينا به عاما كاملا، فعرفنا معنى التمييز بين المواطنين، وأدركنا معنى أن تكون الدولة دينية، ومعنى أن تكون الحاكمية لله ، ومعنى أن يكون الإسلام دينا ودولة”.

وأكد عصفور أن قائد الانقلاب صدقنا الوعد على أن يؤسس الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، مشيرا الى أن تلك الدولة تنفصل فيها الادارة السياسية للوطن عن الدين، ولا يختلط فيها الدنيوي بالديني، ولا يكون فيها لعلماء الدين سلطة سوى سلطة الوعظ والنصح !

وهو كلام فيه كثير من الخلط والتشويه والتضليل إن لم يكن كله كذلك . فأين مصر مما يحدث حولها وقد استسلم الانقلابيون  للحبشة في قضية المياه الحيوية وتماهوا مع العدو النازي اليهودي حبا وتحالفا وترنح اقتصادهم استعدادا للتهاوي وتمددت البطالة وارتفعت الأسعار ونضب الاحتياطي من العملة الأجنبية وانتشرت الجريمة وفشت الرشوة وازدهرت العنصرية بين فئات المجتمع وصار الحكم عسكريا عضوضا يهيمن على كل كبيرة وصغيرة في الوطن ، وأضحى من يخالف أو يعارض في مهب الريح لا يأمن العودة إلى بيته .. قارن ذلك بالعام الذي حكمت فيه الإرادة الشعبية التي تآمروا عليها ، ووصلت السفاهة ببعضهم أن يتظاهروا بالأندر وير ، وأن يضعوا البرسيم أمام منزل رئيس الجمهورية المنتخب ، ويعودوا جميعا إلى بيوتهم آمنين ، ومع كل المؤامرات الخائنة فقد قام الرئيس المنتخب بتثبيت العمالة المؤقتة ، وتحقيق العدالة في التعيينات وخاصة في مجال القضاء ، وزيادة إنتاج القمح ، وإشاعة مبدأ الانتخاب في الوظائف العليا ، وتحسين أحوال الصناعة والزراعة والسياحة والعلاج ، ورفع المرتبات والمعاشات بوضع حد أدنى وحد أقصى و .. ولكن المتآمرين الذين تعامل معهم الرئيس برفق ، واختار بعضهم في معيّته ؛ فضّلوا الغدر والدم والقهر والسوط  والتشهير، وكان أن وصلت مصر إلى ما وصلت إليه ، ومع ذلك يقلب الناصريون ومنهم جابر عصفور الحقيقة ، ويحصرها في إطار الدولة المدنية التي أصبحت عسكرية صارخة ، وفصل الدين عن الدولة التي أمست حربا ضروسا على الإسلام ، و باتت سلطة العلماء المزعومة تمنح قائد الانقلاب النبوة وبطولة صلاح الدين وعبقرية أيزنهاور!

لقد عاشت مصر تحت الاحتلال البريطاني سبعين عاما . و تحت حكم العسكر أكثر من ستين عاما ذليلة مهانة في قاع التخلف والبؤس ، وكان العام الوحيد الذي شهد  الحكم الديموقراطي ومشاركة الشعب إيذانا بتغيير المعادلة ، ولكن صندوق الذخيرة آثر أن يكون امتدادا لحكم الإنجليز والعسكر ، فكان ما هو كائن ! 

البعير الأهبل في تعليقاته لم يبعد عن أفكار عصفور وأمثاله من اليساريين بعامة الذين آثروا حكم البيادة على حكم الديمقراطية وآثروا التضحية بالإسلام وفضلوا الإيمان بالانتهازية ، وقاموا  بدور المداحين الكذابين بدلا من القيام بدور المثقفين العضويين .

الأكاذيب التي يرددها الناصريون خدام البيادة وعشاقها ومعهم بقية اليساريين والليبراليين لا تصنع فكرا ولا مستقبلا ، لأن البعير الأهبل لا يصلح للعمل !

الله مولانا . اللهم فرّج كرْب المظلومين . اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم !

وسوم: العدد 684