داريا ... أنين العناقيد
وتوقعته أن يقول: يا لهذا البلد الموحش، أين رجالك الرائعون واين شبابك الطامحون وأين نساؤك العذارى … الذين ملأوا هذه الأرض خيراً وخصباً ورياً منذ عهد سرجون وآرام، ولم يتمكن طاغية ولا ظالم ولا محتل ولا باغ أن ينتزعهم من أرضهم ويقتلعهم من جذورهم…
وما العيد؟؟ وما الصلاة؟؟؟ أن تصل الناس فتعود عليك بالتحية والعون… وهل بقي من مائتي الف داراني من رجالها أونسائها أوأطفالها يد تصافحك؟؟ أو كفٌ ترد عليك السلام؟؟؟؟ أو عين واحدة تبادلك خبي النظرات؟؟؟؟
وتوقعته أن يقف دامع العينين مكسور القلب عند كروم داريا يستمع أنين العناقيد ويقول: يا لهول هذا القدر القاسي الذي كتب على مدينة الكرم والزيتون… أقسم بشرفي ومعتقدي وأولادي أن لا أبيت على فراش حتى يعود أهلك الطيبون إلى كرومهم ومزارعهم…
وتوقعته ان يذهب إلى ضريح بلال وينادي حي على السلام، ويقول أقسم بما يقسم به الفرسان أن أجلب إليك السلام بعد الحرب، وأن أشرد من شردك، وأهدم من هدمك، وأحاكم من أذل شبابك، حتى يذل كل ظالم، ويعاقب كل مجرم، وينتصف كل مظلوم، وحرام على هذا البلد الطاهر أن يدوسه من ألقى عليه شوكة، أو قتل حمامة، أو أراق فيه قطرة دم!!!
وتوقعته أن يقف عند المباني المتهدمة التي دمرتها (العصابات المسلحة!!) بالبراميل والطيران!!! داراً داراً وزنقة زنقة!! ويقول: يمين الله ….. لأعاقبن كل من رامك بسوء، يا ويح مجرمينا… لقد كنت أرضى منهم بدون ذلك……
وتوقعته أن يدخلها بموكب من باصات خضر .. تدور في أرض الشتات، تلم كل داراني شريد، فتملأ مصلى مداريا بالعائدين المنهكين، فيقول لهم لقد فعلنا ما فعلناه لنرد عنكم مؤامراتهم ونرفع عنكم مظالمهم، ولن أدخل داريا حتى يعود أطفالها ونساؤها وشيوخها وشبابها، وأقف معهم أنا وأولادي في طابور واحد لأكنس الارض معكم وأرحل أنقاضها، وأحمل على كتفي طوباً جديداً لإعادة إعمارها مع أهلها وأبنائها!!
وتوقعته أن يقف عند كروم داريا ويشم أرضها ويقول يا لهذه العناقيد الندية، كانت مستراح الشام ونداها وعطرها، كان لحم أكتافنا من خيرها، وكان عنبها وكرمها صورتنا في العالم، وكانت عناقيدها غناء فيروز أواخر الصيف، وأشواقها حنين نزار وهو يتحدث عن الأرض التي تنبت قمحاً وأنبياء.
وتوقعته أن يقول:
وإن الذي بيني وبين بني أبي …………. وبين بني عمي لمختلف جداً
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم…….وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وتوقعته أن يقول لا أشرب عنباً ولا آكل زيتوناً حتى يعود أعمامي وآبائي من أصحاب هذه الكروم إلى بياراتهم ومعاصرهم وحقولهم.. وحتى تعود الأمهات والعذارى فتملأ كروم داريا إلى كوكب وشقحب، وتفيض بالزبد والعسل والجبن واللبن.
وتوقعته أن يقول: يا ويح قومي .. لقد حمشتهم الحرب…. وماذا عليهم لو نشدوا للسلام مطرحا ولم يسمعوا لصوت الحرب:
وتوقعته أن يقول كلام البحتري:
وفرسان هيجاء تجيش صدروها ….. بأحقادها حتى تصيق دروعها
تقتِّل من حقـــــد نفوس أعزة … عليهــا بأيد ما تكاد تطيعها
إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها… تذكرت القربى ففاصت دموعها
وتوقعت مفتيه ذو العمامة الطغرائية واللسان الذرب أن يقول أيها الرئيس… لا يليق بنا أن ندخل مسجد هذه البلد حتى نزور مقابر شهدائها ونضع عليها الآس والريحان، ونصلي صلاة الغائب على أطفالها ونسائها، وأن نستمع حداءهم ونقرأ عيونهم.. فإنهم لا بواكي لهم..
وتوقعته أن يقول: لا عيد ولا صلاة حتى يعود أهل الدار إلى دارهم…ولا تجب الجمعة ولا العيد إلا في أهل مصر مقيمين، ولا يقبل الله صلاة في أرض مغتصبة ….
وتوقعته أن يقول دلوني على دار غياث مطر حتى أقبل حنجرته التي صرخت نشيد السلم قبل أن ينفجر جنون الحرب، وحتى أذهب بنفسي إلى أهله وأحبته وأسلمهم حق القصاص من قاتليه فقد جعلنا لوليه سلطاناً إنه كان منصوراً..
وتوقعته أن يقول نادوا كل خولاني شريد… فليكونوا أمامنا ونمشي في فيئهم إلى ضريح أبي مسلم الخولاني، نعتذر إليه ونزرع عند قبره شجرة الغفران..
وتوقعته أن يقف أمام قناة الداراني الذي كان يصل لداريا منهكاً تعباً فيخرج منها عنباً وعسلا وزيتونا ونخلا وفاكهة وأبا… ويقول غفرانك يا ساقية الحب الجاري… لم نكن نستحق فاكهتك وربيعك، لا شربت بارداً ولا طعمت حاراً حتى يعود إلى النهر مساكبه وعداناته وفلاحوه، فلا معنى للأشياء بدون الإنسان.
وتوقعته أن يغدو إلى سجن الهول في مطار المزة، فيأتي إلى داريا برفقة عميد سجنائها وأحرارها إمام السلام والمحبة في داريا الشيخ الجليل عبد الأكرم السقا، ويقول له: لعن الله سجانيك، وانتقم من معذبيك، تقدم أنت ايها الحر، أنت غاندي الشام، يشتاقك تراب الأرض وروحها وعبيرها، ولا نطأ ثراها إلا في ركابك ولا ندخلها إلا من بابك…..
وتوقعته وتوقعته وتوقعته….
لم يفعل؟؟؟؟ وكيف يفعل؟؟؟ وهل نجح في إعادة حمصي واحد أو زبداني واحد إلى بيته من قبل؟ مذ دخل جيشه الغازي قبل سنتين إلى مدنهم الذبيحة المحطمة؟؟؟؟
أدغوه أن يتأمل طبيعة خطابه الثأري، حين وقف على أشلاء داريا كحجر بلا قلب، وعند مأساتها المريعة ومذبحتها الدامية وقال من هناك: سنستكمل حربنا ضد هذا الشعب الثائر حتى يخضع لبساطير جندنا البواسل، ويعود إلى حضن قيادتنا الحكيمة، وينسى أولاده وأحبابه في سجوننا السوداء، وعليه أن يكتفي يمتابعة أسمائهم في القوائم المسربة من المعذبين في زنازين القهر وعنابر الموت وسجون الكفر.
لم يفعل .. ويبدو أن لن يدرك أبداً أن يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم!!!!
وسوم: العدد 686