عبقرية الكلام الفارغ
هل صادفت في طريقك شخصاً يكثر من الكلام، وتتعجب من قدرته ونفسه الطويل في الحديث، ثم هو لا يقول شيئاً على الإطلاق؟
هل صادفت شخصاً كبيراً يستخدم ألفاظاً خطيرة من ماركة (في الحقيقاااااه/ في الواقيييع/ أنا أرى/ بحسب خبرتي ومعلوماتيييي/ أتصورررررر أن.. وما شابه ذلك من ألفاظ توحي أنه أحاط بكل شيء علماً، وأن عنده من الأسرار والخفايا ما ليس عند غيره، فإذا فتشت في كلامه وجدته جعجعة بلا طحن، وحشواً فارغاً بلا مضمون!
هناك ما يسمى في العربية تحصيل الحاصل، وهو مرادف للكلام الفارغ الذي يبرع فيه كثير من الكتاب، والساسة، والصحفيين، وباعة الكلام الذين يخدعون من أمامهم بما يوهم أنهم مهمون وهم في الواقع.. ولا حاجة!
ولأوضح وجهة نظري قارئي العزيز أرجو أن تستمتع معي بأبيات قرأتها قبل أكثر من خمس وثلاثين سنة في مجلة الدوحة، لأبين لحضرتك من خلالها معنى الكلام الفارغ أو تحصيل الحاصل.. يقول الشاعر العبقري الذي لم أجد له اسماً؛ على طول ما فتشت:
الأرض أرضٌ والسماء سماء والماء ماء.. والهواء هواءُ
والروض روضٌ زينته غصونُه والدوح: دالٌ ثم واوٌ حاء
والبحر بحرٌ .. والجبال رواسخٌ والنور نورٌ.. والظلام عماء
والحر ضد البرد قولٌ صادقٌ والصيف صيفٌ والشتاء شتاءُ
والمسك عطرٌ .. والجمال محببٌ وجميع أشياء الورى أشياءُ
والمرُّ مرٌّ .. والحلاوة حلوة والنار قيل بأنها حمراء
والمشي صعبٌ .. والركوب نزاهةٌ والنوم فيه راحة وهناءُ
كل الرجال على العموم مذكرٌ أما النساء فكلهن نساء!
وتعميقاً للغلاسة في هذه القصيدة أضاف بعضهم إليها:
السهل سهلٌ .. والعناء عناءُ والصبح صبحٌ .. والمساء مساءُ
والله ربٌّ .. والعباد خواضعٌ والجهل جهلٌ .. والذكاء ذكاءُ
والعلم نورٌ .. والنبوغ مواهبٌ والكره داء .. والحنان دواء
والبخل عارٌ .. والفسوق كبيرةٌ والإتزان مهابةٌ .. وهناءُ
والعز فخرٌ .. والمذلة نكسة والصبر فيه عن الهموم جلاء
تأتيك من خلق الوضيع حماقةٌ أما الكرام ففيهم استحياء!
ومن أساتذة التحامق وتحصيل الحاصل - سخرية من المجتمع والعصر – شيخ مصري مملوكي في القرن التاسع الهجري اسمه ابن سودون (ت 868 ه – 3661 م) كان إماماً بأحد المساجد، وألف كتاباً بعنوان "نزهة النفوس ومضحك العبوس" بالعامية المصرية الشائعة في زمنه، ومن خلالها سخر من نفسه وأهله والمجتمع كله، وكثيراً ما كان يستخدم الكلام الفارغ، أو تحصيل الحاصل، ليوصل رسالة يريد توصيلها..
ولابن سودون أسلوب خاص في الفكاهة، فهو يبدأ بدايات في غاية الجدية - لشد الانتباه - ثم تجد نفسك في غمار حكاية مضحكة، أو نكتة، أو يحكى لك أشياء عادية وهو يوهمك أنه يتحدث عن غرائب الدنيا، فتنفجر ضاحكاً!
ويروى عنه أنه تزوج امرأة لم تعجبه، فنظم فيه يوم الصباحية شعراً، كان منه:
في وجهها نمشٌ .. في أذنها طرشٌ في عينها عمشٌ للجفن قد سترا
في بطنها بعَجٌ .. في رجلها عرجٌ في كفها فلَجٌ ما ضر لو كُسرا
في ظهرها حدبٌ .. في قلبها كدرٌ في عمرها نوب كم قد رأت عبرا
يا حسن قامتها العوجا إذا خطرت يوماً وقد سبسبت في جيدها شعرا
تظل تهتف بي: حسنًا حظيتُ بها أواه لو حازها موت لها قبرا
ومن تحصيل الحاصل في شعره، قوله:
البحر بحرٌ .. والنخيلُ نخيل والفيل فيلٌ .. والزراف طويلُ
والأرض أرض.. والسماء خلافُها والطير فيما بينهن يجولُ
وإذا تعاصفت الرياح بروضةٍ فالأرض تَثبتُ والغصون تميل
والماء يمشي فوق رمل قاعدٍ ويُرَى له - مهما مشى – تسييلُ
ومن أغرب ما كتب ابن سودون في هذا الباب قصيدة مشهورة منها:
إذا ما الفتى في الناس بالعقل قد سما تيقن أن الأرض من فوقها سما
وأن السما من تحتها الأرض لم تزل وبينهما أشياءُ إن ظهرت ترى
وإني سأبدي بعض ما قد عُلّمته لتعلم أني من ذوي العلم والحجا
فمن ذاك أن الناس من نسل آدم ومنهم أبو سودون أيضاً وإن قضى
وإن أبي زوج لأمي.. وإنني أنا ابنهما.. والناس هم يعرفون ذا
وكم عجب عندي بمصر وغيرها فمصر بها نيل على الطين قد جرى
وفي نيلها من نام بالليل بلّهُ وليست تبل الشمس من نام بالضحى
بها الفجر قبل الشمس يظهر دائماً بها الظهر قبل العصر: قبل بلا مرا
ويسخن فيها الماء في الصيف دائماً ويبرد فيها الماء في زمن الشتا
وفي الصين صينيٌّ .. إذا ما طرقتَه يطن كصينيٍّ طرقتَ .. سوا سوا
بها يضحك النسان أوقات فرْحهِ ويبكي زماناً أكثراً.. حين يبتلى
وفيها رجال هم خلاف نسائهم لأنهم تبدو بأوجههم لحى
وبالشام أقوام إذا ما رأيتَهم ترى ظهر كل منهم وهو من ورا
بها البدر حالَ الغيم يخفى ضياؤه بها الشمس حال الصحو يبدو لها ضيا
ومن قد رأى في الهند شيئاً بعينه فذاك له في الهند بالعين قد رأى
ومن قد مشى وسط اللهيب بطُرْقها تراه بها وسط اللهيبِ وقد مشى
وعشاق إقليم الصعيد به رأوا ثماراً كأثمار العراق لها نوى
به باسقات النخل.. وهي حوامل بأثمارها قالوا: يحركها الهوا
ولا علمتني ذاك أمي ولا أبي ولا امرأة قد زوجاني ولا حما
ولأن ابن بسيون ينافس ابن سودون في الكلام الفارغ، فهل من تحصيل الحاصل أن أن يزعم لك أيها القارئ – وتصدقه - أن الأمة جائعة أو متخلفة، وأنها تستاهل اللي يجرى عليها، وأنها تحب الظلم وترضاه، وأن السلام في واقعها مرفوض مرفوض مرفوض، وأنها كالقطط تموت في خنّاقها، وأن الستات قادمات، وأن الأخلاق في انهيار، وأن الأسعار نار، وأن المؤسسات في دمار، وأن الزواج هايبقى ذكرى، وأنه - عما قريب – مش هايبقى فيه حاجة اسمها شرف ولا عيب، وأن الفلوس تشتري كل حاجة، وأن الإعلام بيخلي الشيطان قديس، ويخلي الناسك إبليس، وأن حال الأمة يجيب الضغط، وأن البنات احلووا أكثر، والعيال صاعوا أكثر؟!
وسوم: العدد 687