عرب مابعد الحرب العالمية الثانية

د. هشام رزوق

مرت قبل أيام (الثامن من مايو) الذكرى التاسعة والستون لانتهاء الحرب العالمية الثانية، احتفل المنتصرون فيها بنصرهم، واستذكر الخاسرون المآسي التي رافقت أو التي تلت تلك الحرب المجنونة وخاصة استخدام القنبلة الذرية لأول مرة في التاريخ من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ضد مدينتين يابانيتين.

صاغت الدول المنتصرة قوانين ما بعد الحرب بما يكرس هيمنتها العالمية ويخدم مصالحها الاستراتيجية، السياسية والعسكرية والاقتصادية، وحاولت بعض الدول المهزومة أن تأخذ بثأرها من خلال نهضة صناعية كاسحة وهو ماتحقق بشكل فعلي لكل من اليابان وألمانيا، فماذا عن الدول العربية؟

صحيح أن أغلب الدول العربية  حصلت على "استقلالها"، لأن كل من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا (الدول التي كانت قد تقاسمت الدول العربية بعد الحرب العالمية الأولى)  خرجت منهكة من الحرب ولم تعد قادرة على الاستمرار باحتلال تلك الدول عسكريا، إلا أن الاستقلال لم يكن ناجزا ولا كاملا ولا حقيقيا.

كان من المفروض أن يكون نيل الاستقلال بداية لتحول جذري في حياة الشعوب العربية، تحول يهدف إلى بناء دول أساسها الديمقراطية والحرية الفكرية والسياسية، دول تقوم على مؤسسات شعبية منتخبة، دول يحكمها القانون، يتساوى بها المواطنون في الحقوق والواجبات، يحاسب بها الكبير والصغير إن أخطأ أو نهب أواستخدم موقعه لأغراض شخصية، دول تقوم على أساس تداول السلطة  وتقاسمها بين جميع أبنائها، دول تعمل وتسخر إمكانيات البلد وثرواته لما فيه خير المواطنين ولتأمين حياة كريمة لكل أبنائها، لكن أي شيء من هذا لم يحدث، ما حدث هو أن استلمت الحكم قوى وفئات إما من عملاء الاستعمار ومن يدور في فلكهم، أو لقوى شبه برجوازية تشكلت في ظل الاحتلال أو لقوى رجعية متخلفة من فئة الأمراء والشيوخ والملوك، ونادرا ما رأينا قوى وطنية واعية ومنظمة وببرنامج واضح، تستلم السلطة في تلك الأقطار المستقلة.

الأخطر من ذلك كله أن نهاية الحرب العالمية كانت إشارة البدء بتنفيذ وعد بلفور المشؤوم وزرع الدولة الصهيونية في قلب الوطن العربي، فلسطين. فكيف حصل ذلك؟ وما الأسباب ؟

الأسباب كثيرة بلا شك، أولها غياب طبقة سياسية واعية ومثقفة، ليس في مرحلة النضال الوطني من أجل نيل الاستقلال فقط، بل في المراحل اللاحقة، حيث أن تطور الأوضاع في الأقطار العربية جمعاء لم يسمح بتكون تلك الطبقة، فمنذ انهيار الدولة العباسية وحرق كتب ابن رشد وضياع الأندلس وخضوع بلدان العرب للعثمانيين لأربعة قرون، شكلت تلك الحوادث التاريخية كارثة كبرى غلى صعيد التطور الفكري والثقافي والعلمي، حيث ساد الجهل والفقر والقمع والاستبداد، وحصلت قطيعة تامة مع كل أسباب التطور على جميع المستويات فلا علم ولا أدب ولا فلسفة ولا اجتهاد ولا إبداع فني ولا مشاركة فعلية في الحياة السياسية، وإن كانت تظهر من وقت لآخر حركات فلسفية أو حلقات للنقاش الفكري والاجتهاد حول أمور الدين والدنيا، فسرعان ما تقمع ويضطهد أفرادها وزعماؤها ومفكروها.

 ما أن سقطت الدولة العثمانية إثر الحرب العالمية الأولى حتى وقعت بلدان العرب تحت حكم الاستعمار الغربي ممثلا بالأساس بفرنسا وببريطانيا العظمى اللتان تقاسمتا بلاد العرب كلها في ما اشتهر باتفاقية سايكس- بيكو وزيرا خارجية البلدين آنذاك. تلا ذلك فترة كان فيها النضال الوطني محتشما ولم تظهر قيادات سياسية ولا أحزاب ذات شأن لقيادة مرحلة مقارعة الاستعمار الغربي، ولم تنفجر ثورات شعبية كبيرة في وجهه. صحيح أن انتفاضات شعبية تفجرت هنا وهناك في أنحاء العالم العربي مثل ثورة العشرين في العراق وثورة عبد الكريم الخطابي في ريف المغرب والثورة السورية الكبرى وثورة 1936 في فلسطين وقبلها ثورة عبد القادر الجزائري في الجزائر، إلا أنها كانت كلها محدودة في الزمان والمكان وكانت تقودها زعامات دينية أو قبلية أو عشائرية ولم تمتد رقعتها لتشمل جميع فئات الشعب وفي عموم مناطق البلاد التي قامت بها مما كان يؤدي إلى إخمادها والقضاء عليها سريعا دون أن تحقق أهدافها.

قد تكون الثورة الجزائرية عام 1954 هي الثورة الشعبية العربية الوحيدة التي تميزت بمشاركة واسعة وعلى امتداد رقعة الجزائر، ووجدت لها دعما عربيا وعالميا كبيرين، واستمرت لسبع سنوات وتكللت بالانتصار وطرد المحتل الفرنسي عن أرض الجزائر.

كان من المفروض أن تكون تلك الثورة نموذجا عالميا في إنجازانها السياسية والاقتصادية كما كانت نموذجا عالميا في التضحية والصمود أمام أكبر قوة عسكرية استعمارية، لكن واقع الحال يقول أن الثورة الجزائرية فشلت في خلق دولة نموذجية تحقق الأمن والاستقرار والحياة الكريمة لأبنائها رغم الثروات الهائلة التي تمتلكها .

لا يكفي القيام بالثورة لبناء دولة الحق والقانون، دولة المؤسسات، دولة ديمقراطية مدنية.

بناء الدولة يحتاج مساهمة المثقفين كمختبر ينتج الأفكار ويعالج المشاكل ويجد الحلول وينير الطريق، يحتاج إلى طبقة سياسية وطنية، ولاؤها الأول للوطن وهمها الأول مصلحة الوطن والمواطنين، طبقة مؤمنة بالقيم الإنسانية، بعيدة عن النفاق والأنانية والانتهازية.

لقد تم حرمان كافة الدول العربية من إمكانية تشكل تلك الطبقة من السياسيين والمثقفين الوطنيين، وابتليت بوجود أنظمة  قمعية استبدادية لا فرق فيها بين نظام أميري أو ملكي أو جمهوري، فهي كلها محكومة بعقلية القائد الوحيد الأوحد العبقري الملهم، لا فرق أن يكون عسكريا أو مدنيا ، شيخ قبيلة أو أمير، كلها تتقن فنون القمع والقتل وإصدار قوانين المنع ومصادرة الأفكار والحريات كما تتقن فنون شراء الضمائر وأصحاب الأقلام المطروحة في سوق البيع والشراء.

في مرحلة أولى، حوربت الأحزاب الشيوعية المتشكلة حديثا في بعض الأقطار العربية، حوربت من قبل الأنظمة العربية كلها ومن ورائها كل القوى الإستعمارية الغربية التي كانت في حرب باردة شديدة مع المعسكر الشرقي الذي يقوده الاتحاد السوفييتي، تمت شيطنتها واحتواؤها ومحاربتها كونها أحزاب ملحدة كافرة.  لم تجد الأنظمة حرجا باستخدام رجال الدين لخوض معركتها ضد تلك الأحزاب وما تحمله من أفكار ثورية تدعو للتغيير، وكان لتنظيمات الأخوان المسلمين دور وشأن كبيران لدى الأنظمة فمدتهم بكل الوسائل والإمكانيات للقيام بهذا الدور، حتى وصل بهم المقام إلى تسليح وتدريب كتائب كاملة ل "الجهاد" في أفغانستان حين احتلها الاتحاد السوفييتي، يومها لم يكن الإسلاميون "إرهابيين" بعد.

وفي نفس الفترة، ومع ظهور واتساع التيار القومي الذي يدعو إلى وحدة الأقطار العربية، أصبح هذا التيار وما يحمله من أفكار يشكل تهديدا حقيقيا لتلك الأنظمة الاستبدادية ومن يقف وراءها من القوى الاستعمارية والصهيونية العالمية، فأصبح كل قومي عربي عدوا. حورب مؤسسو هذا التيار ومناصروه ومؤيدوه، حورب عبد الناصر وحزب البعث العربي الاشتراكي وكل الحركات ذات الطابع العروبي الاشتراكي. أخذت تلك الحرب أشكالا مختلفة، فمن اعتقال المناضلين وملاحقتهم وتشريدهم وقتلهم، إلى محاربة الأفكار وتشويهها وتخريبها من خلال الأنظمة التي ادعت حملها وارتكبت باسمها أفظع الجرائم بحق الشعب. وإذا كانت هزيمة الخامس من حزيران أمام جيش العدو الصهيوني تعتبر بداية لانهيار المد القومي فإن أخطر معركة خاضها الأعداء ضد هذا التيار كانت معركة احتلال العراق وإسقاط الحكم الوطني فيه.

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط بغداد، أي بعد ضرب كلا من التيارات الماركسية الشيوعية والتيارات القومية العربية، أصبح العدو الرئيسي هو الإسلام السياسي.

ومن أجل تشويه الإسلام فكرا وعقيدة وانتماء، كان لا بد من ابتداع "التيارات الجهادية" ذات الفكر الظلامي المتخلف، الوحشية السلوك والتي لا تمت بصلة للإسلام الحقيقي، المعتدل، الوسطي، الإنساني.

ظهرت "القاعدة" وأخواتها، ظهر السلفيون والتكفيريون، وأسماء لا حصر لها من التنظيمات التي ترتكب الجرائم بكل أنواعها باسم الدين: فمن طالبان أفغانستان، إلى طالبان باكستان، إلى القاعدة في بلدان المغرب الإسلامي إلى بوكو حرام إلى داعش وحالش والنصرة والميليشيات الشيعية التي ظهرت كالفطر، وغيرها كثير، كلها تدعي الإسلام وامتلاك حقيقة الدين، وكلها في الحقيقة تشوه الدين والإسلام، وتعطي المبرر لكل عدو أن يلصق تهمة الإرهاب بالإسلام والمسلمين وتبرر الحرب العالمية عليهما.

وبالنتيجة فبعد تسع وستون سنة من "الاستقلال"  مازالت نسبة الأمية أكثر من خمسون بالمائة من عدد السكان في أغلب الأقطار العربية. لا توجد أية جامعة عربية لها سمعة عالمية ببحوثها ونشرياتها، ولا توجد مستشفى واحدة تستطيع القيام بكل المهام الطبية بالشكل المطلوب، وما زال زعماؤنا العرب وأغنياؤنا يؤمون المستشفيات الأوربية والأمريكية ليعالجوا أنفسهم وعائلاتهم. لا طرق ولا بنية تحتية ولا ماء ولا كهرباء في أغلب مناطق العديد من البلدان العربية. لا بحث علمي ولا مناهج دراسية تساير العصر، لا صناعات موثوق بجودتها ولا زراعة تؤمن الأمن الغذائي، شعوب جائعة، مريضة وجاهلة.

بعد تسع وستون سنة من الاستقلال، أكثر من نصف القوى الشبابية العاملة وخاصة من أصحاب الكفاءات والشهادات العليا، لا تجد عملا يضمن لها حياة مستقرة كريمة رغم تريليونات البترول والغاز والفوسفات والقطن والسياحة وغيرها، التي تدخل خزائن الدول العربية. نهب وسرقة وفساد وإفساد بشكل رسمي وعلني، تحولت الأنظمة إلى مافيا منظمة ومسلحة بلا أخلاق ولا ضمير ولا حس وطني.

بعد تسع وستين عاما نتهيأ كمتفرجين لاستقبال نبأ هدم المسجد الأقصى وقبة الصخرة واكتمال ضم أرض فلسطين كلها بعد ضم الجولان.

وما زلنا ننكش في الماضي نتقاتل ونتخاصم حول أحداث وقعت قبل أربعة عشر قرنا من الزمان، نشعل الفتن الطائفية ونؤجج نارها المطفأة، نرفع الرايات السوداء والحمراء والخضراء وننحدر إلى الدرك الأسفل من الجاهلية والبدائية التي لا تختلف كثيرا عن الحيوانية.

العراق احتلت ودمرت، والسودان أصبح جنوب وشمال وحرب الأسد ضد شعب سورية أحرقت الأخضر واليابس وهجرت نصف عدد السكان وقضت على مستقبل أجيال من الأطفال وما زالت لم تنته بعد، ويسألونك لماذا الحقد على الأنظمة ولماذا الانتفاضات والثورات؟

مع انفجار الاحتقان الشعبي بوجه الأنظمة في بعض الأقطار العربية  فيما سمي بالربيع العربي، تأكد بوضوح سعي قوى الهيمنة الاستعمارية ممثلة بالأساس بالولايات المتحدة الأمركية والأنظمة الرجعية، إلى إجهاض تلك الثورات بطرق وأساليب مختلفة حسب الظروف المحيطة بكل قطر، فأسلوب سرقة الثورة وحرفها عن أهدافها التي انطلقت من أجلها اختلف من مصر إلى تونس إلى اليمن إلى ليبيا وكلها اختلفت عما يجري في سورية، لكن الهدف واحد وهو منع الثورات من تحقيق انتصارات كاسحة على الأنظمة الفاسدة، ثم إعادة إنتاج تلك الأنظمة بوجوه وأشكال أخرى، فالقوى الاستعمارية تفضل التعامل مع حكام ديكتاتوريين لسهولة إخضاعهم ورشوتهم.

الخوف على الثورات العربية نابع أولا من هذا الحلف الخبيث، ثم من عدم وجود قيادات وطنية واعية ومثقفة تقودها ومن تفكك القوى التي لها مصلحة بالتغيير. فكما كان الحال بعد الحرب العالمية الأولى وكما كان بعد الحرب العالمية الثانية، تفتقد الشعوب العربية لطبقة سياسية وطنية واعية تقود وتؤطر جميع مراحل النضال والبناء في غياب شبه تام للمثقفين.

إن العمل الثوري والوطني يقتضي أن تستجمع الأحزاب الوطنية (أو مابقي منها) العلمانية، القومية والاشتراكية والإسلامية المعتدلة، قواها وأطرها وأن تتحالف في جبهة واحدة تتفق على برنامج عمل وطني ليس فقط في سورية بل في كل الأقطار العربية، وبدون ذلك سيكتب بعد خمسين سنة أخرى نفس ما نكتبه الآن عن الأوضاع العربية إن لم يكن أسوأ بكثير. التاريخ لا يرحم، لكنه مع حركة الشعوب التي لا تعرف اليأس. لا بد من الخروج من حالة الانتظار إلى حالة الفعل المؤثر بالأحداث من أجل تغيير هذا الواقع المرير.