مع محمود محمد شاكر في نعيه وجنازته وعزائه

clip_image001_08246.jpg

تجالسنا بمكتبتي الناهضة المتكاثرة التي أنشأتها سنة 1990، وأقبلت أبثه ما عندي من ذلك متشوفا إلى ما عنده، ولكنه صمت متثاقلا كالضائق المتحرج، ثم لم يملك لعجزه عن مشاركتي إلا أن يعتذر إليّ بخبر سيئ عرفه وهو على مدخل منوف وعجز عن أن يكتمه عني حتى يفرغ من زيارتي، وإذا هو وفاة محمود محمد شاكر أستاذنا أستاذ الدنيا -رحمه الله، وطيب ثراه!- وأنه سيُصلَّى عليه من الغد، ويُعزَّى فيه مما بعد الغد.

هاتفت أم فهر -رحمها الله، وطيب ثراها!- واستوثقت من ذلك كله، ثم بقيت ليلتي مع أخي أتلدَّد على أستاذي، حتى إذا أصبحنا خرجنا من البيت معا ولم نكد نتجالس على بعد المقام وتعلق القلب وطول الفراق وتطلع النفس، فآب هو مضطرا إلى أسيوط، وسافرت أنا إلى القاهرة.

أدركت أواخر الصلاة على أستاذنا، وعجبت للمحتشدين في المسجد كيف يقومون ويذهبون ويجيئون وأمامهم نعش محمود محمد شاكر؛ سبحان الذي أخفاه عنهم واستأثر به! ثم أقبلت أحمله في الحاملين الذين عرفت منهم: فهر محمود محمد شاكر، ومحمود الربيعي، ومحمد أبو موسى، ومحمود محمد الطناحي، وأبا همام عبد اللطيف عبد الحليم...

جعلنا النعش بسيارة المسجد لتتقدمنا إلى مقابر آل شاكر من القاهرة، وتبعناها بسياراتنا، وكنت مع الدكتور محمود محمد الطناحي بسيارته خلف الدكتور محمد أبو موسى الذي كان ابنه هو الذي يسوق به على مهل خوفا من إضلال الطريق ونحن وراءه على مهله.

أذكر أنني حين وصلنا لمحت اسم الشيخ عبد الحميد كشك -رحمه الله، وطيب ثراه!- على قرابة ثلاث مقابر دون مقبرة آل شاكر. ثم دخلنا فإذا فضاء مسوَّر خاوٍ إلا من شجرات على أطرافه؛ فعجبت: هل سنحفر له على السنة كما لم يعد أحد بمصر يفعل! وإذا الحراس يكنسون التراب عن شرائح من الإسمنت متجاورة ويرفعونها من أماكنها، وإذا سُلم هابط إلى غرفتين تحت الأرض إحداهما للرجال عن يسار الهابط ويمين الصاعد والأخرى للنساء عن يمين الهابط ويسار الصاعد وبينهما ممر ضيق، وإذا الأيدي المنتحبة تَنتضِدُ للفارس إلى حيث يعرِّس!

بقيت في الممر على ضيقه بالمزدحمين أقرأ سورة يس حتى تم الأمر، وصعدنا، وعادت الشرائح، فأعجلَنا عن الدعاء بعضُ قراء المقابر المحترفين؛ فقرؤوا من أورادهم مثلما يتخلَّص طالبٌ جَهول ممّا حَفِظ في كراسة إجابة اختباره، وما دروا ما قرؤوا؛ فانتفض الدكتور محمود محمد الطناحي -رحمه الله، وطيب ثراه!- يزيل آثارهم بدمعات مُدمّاة من مهجة قلبه، توسل بها إلى الحق -سبحانه، وتعالى!- أن يعفو عن أستاذنا ويتقبله في الصالحين، بما بذل من نفسه في سبيل دينه ونبيه وأمته وحضارته- وأن يحشره مع النبيين والصديقين والشهداء الصالحين. ثم أقبل يذكر أسماء من أخلص لهم وده واستفرغ في خدمتهم وسعه من رجال الحضارة العربية الإسلامية؛ فكان كأنما انتزعنا من أنفسنا وأسرى بنا وعرج!

أبت مع الدكتور محمود محمد الطناحي إلى بيت أستاذنا، فعزيت أم فهر، ورفهت عنها بما كان من قراءتي سورة يس على رأس أستاذنا. ثم أبت إلى منوف لأعود من مساء الغد إلى حيث يُعزّى آل شاكر عن مصيبتهم بمسجد عمر مكرم من القاهرة.

زلزلتني ورقة بيان العزاء الكبيرة المعلقة على مدخل دار المناسبات الملحقة بالمسجد -ولم يكن لي بمثلها عهد ولا بعادات دور العزاء المسجدية القاهرية- وصفُّ المصطفِّين من آل شاكر وكبار تلامذة أستاذنا يسلم عليهم الداخلون والخارجون! وإذا صفوف من الكراسي كثيرة منتظمة، أكبرها هناك قبالة الداخل متروكا للرئيس المصري نفسه أو من ينوب عنه على حسب درجات المجاملات الرسمية، وإذا الذي دخل فجلس عليه نائبًا عن الرئيس هو الدكتور محمد سيد طنطاوي الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر، الذي انحنى له عند الترحيب به كالراكع أحدُ المصطفِّين في المدخل؛ فأسخطَ عليه من معه!

عرفت في المعزين كثيرا جدا من الفنانين والعلماء، حتى لقد رأيت فيهم طارق لطفي الممثل الشاب الذي لم يكن له عندئذ ذكر. ثم لم يكن أعجب عندي من مشهد دخول الدكتور محمد عمارة إلى حيث يجلس من العزاء؛ فقد تنازعه كبار الجالسين، كل يجذبه ليجالسه، وهو شديد الحرج من هذه الحال، لا يدري ما يقول لهؤلاء ولا لأولئك ولا لهاؤلائك- ثم قارئ القرآن الذي اشتغل عنه أكثر الحاضرين بأحاديثهم الخاصة إلا خمسة نفر، أَجلَسَهم أمامه مقياسا، لا يفتأ ينظر إليهم ويقيس أَداءاتِه عليهم!

وسوم: العدد 689