خط زي الزفت!

د. عبد السلام البسيوني

وريني خطّك قارئي العزيز أقل لك من أنت.. فقد بات سهلاً أن أعرف من طريقتك في الكتابة إذا ما كنت سيادتك عصبياً أم بارداً، حازماً أم متردداً، رومانسياً أم جامداً، صادقاً أم مراوغاً حلنجياً، تلعب بالبيضة والحجر كما يقولون..

وخليني آجي لحضرتك من الأول: يقولون أنه في عام 1950م - والعهدة على مجلة المعرفة - هزت مدينة نيويورك انفجارات مدوية، حصدت أرواح عشرات الأمريكيين، وأثارت الذعر بين سكان المدينة، وبعد بحث متواصل لأكثر من شهرين لم تتوصل الشرطة إلى هوية مدبر تلك الجرائم، ولم تستطع الأجهزة الأمنية الأمريكية – باختلاف مسمياتها - تحديد هوية الجاني أو الجهة التي تقف وراء تلك التفجيرات.

وبعد شهرين تلقت صحيفة نيويورك تايمز رسالة عبر البريد من رجل يعترف - بخط يده - بمسؤوليته عن الانفجارات، وشرح فيها الأسباب التي دفعته لارتكاب تلك الجرائم، التي حصدت أرواح العشرات.

الصحيفة نشرت رسالة الجاني على صدر صفحاتها الأولى، بينما عكف العلماء والأطباء النفسيون على تحليل شخصية الجاني من خطه ليتوصلوا من خطه إلى أنه يعاني العديد من العقد والأمراض النفسية التي دفعته لتدبير الانفجارات، ومنذ ذلك الحين عكف العلماء على دراسة ما أسموه علم الجرافولوجي أو علم دراسة الخطوط، وصدرت فيه مئات الدراسات العلمية، التي تكشف دلالات الخط على الشخصية. ودخلت الأجهزة الأمنية والمخابراتية على الخط لتجعل من هذا العلم أسلوباً ومنهاجاً لا يقل بأي حال عن أساليبها الأخرى. وصار هناك خبراء في الخطوط تستشهد بهم المحاكم للتعامل مع حالات تزوير المستندات، التي برع فيها أقوام موهوبون، صرفوا مواهبهم في الممنوع، بينما يستطيعون أن يأكلوا الشهد من موهبتهم في التقليد والمحاكاة!

على كل حال ليس هذا موضوعي – مع شكي في تاريخ الحادثة - وإنما هو تمهيد لما أريد أن أقوله؛ فقد رأيت الإسلام حفيّاً بجمال الخط، وحسن ترتيبه، حتى إنهم ينسبون لسيدنا العظيم علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عليكم بحسن الخط فإنه من مفاتيح الرزق، وجعلتهم يقولون: الخط هندسة روحية كتبت بآلة جسمانية..

وقد قيض الله لي رؤية خطوط كثير من الناس المشهورين، فرأيت فيها من رداءتها عجباً؛ حتى إنني كنت أظن أن بعضهم وكلوا كتابة المقالات لأبنائهم الذين يدرسون في الرابع الابتدائي مثلاً، وإنك قارئي العزيز لو رأيت خط أخينا المبدع إمام مصطفى مثلاً لاستعذت بالله من الشيطان الرجيم من الفوضى وعدم التناسب، وقلت في نفسك: إيه الهباب ده؟ ولولا أنني رأيته يكتب بنفسه أمامي ما صدقت أن هذا خط رجل يتباهى أنه حاصل على الإعدادية، وربما أكثر منها – منذ أيام السلطان قلاوون الألفي - برضه ما علينا.. الأستاذ إمام مش موضوعي خالص:

يزعم بعضهم أن الروائي الفرنسي بلزاك كان يزعم القدرة على التكهن بمستقبل الناس من دراسة خطوطهم، وذات يوم قدّمت له امرأة ورقة عليها بضعة أسطر قائلة إنها لصبي في العاشرة، ولما حدّق (بلزاك) في السطور طويلاً ثم رفع رأسه، قال:

صاحبُ هذا الخط سيبقى حماراً طول عمره! قالت المرأة:

ممتاز.. هذا خطك أنت حين كنتَ في العاشرة!

ومن رديئي الخط الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى الذي يروى أنه رأى ورقة قد كتبت بخط رديء، فقال: الحمد لله الذي أحياني حتى أرى خطاً أسوأ من خطي، لكنه فؤجئ في نهاية الورقة بعبارة: كتبه ابن حجر..

وكان كاتبه يحسن قراءة خطه خيراً منه... يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: عبدالله بن رشيق المغربي: كاتب مصنفات شيخنا العلامة ابن تيمية، كان أبصر بخط الشيخ منه، إذا عزب شيء منه على الشيخ استخرجه أبو عبد الله هذا، وكان سريع الكتابة، لا بأس به، ديناً عابداً، كثير التلاوة، حسن الصلاة، رحمه الله وغفر له آمين..

ويشبهه كذاك فضيلة الشيخ أحمد ابن حجر البوطامي، الذي قال لكاتبه ذات مرة:

تعال بسرعة لأقرأ عليك ما كتبت، لأني بعد ذلك لن أستطيع قراءته!

ومثل هذا تماماً ما ورد في المختار المصون من أعلام القرون من أن الشيخ صفي الدين الهندي، محمد بن عبد الرحيم، الفقيه الشافعي، المتوفى سنة 517 هــ - كان من هذا النوع، فيحكى أنه قال: وجدت في سوق الكتب مرة كتاباً بخط ظننته أقبح من خطي، فغاليت في ثمنه، واشتريته لأحتج به على من يدعي أن خطي أقبح الخطوط، فلما عدت إلى البيت وجدته بخطي القديم!

والأنْأح من هذا – وهو سر قارئي الحبيب أسألك بالله أن تكتمه علي – ما حصل لي أنا شخصياً، وأنا في الصف الأول الإعدادي في الأزهر، فقد كان لنا زميل رديء الخط جداً، لا حدّ لرداءة خطه وبشاعته، وعدم قابليته للقراءة، واشتهر بين المدرسين والطلاب بذلك، حتى صار علماً على رداءة الخط. وذات يوم أخذ الأستاذ يوزع علينا الكراسات التي كان يصححها، وقد كانت كراسات الاجتماعيات على ما أذكر، فلما وصل إلى إحداها، صرخ بغضب شديد: انت يا زفت يا ...: إيه الهباب اللي انت منيِّلُه ده؟ وألقى الكراسة في وجهه بغضب شديد!

أخذ أخونا النبيل الشهم الكراسة، ونظر إليها، وجلس صامتاً حتى انتهت الحصة، ثم جاءني بغاية الهدوء وأعطاني إياها؛ فقد كانت كراستي أنا!

آه.. يعني مش الأستاذ إمام بس!

على كل حال: ظهرت دراسات توضح أن 400 شكل أو سمة من سمات الخطوط من الممكن أن تكشف عن الصفات السرية أو اللاوعي والحالة المزاجية والمعنوية للكاتب، وبدأ أكثر من 15% من الشركات والمؤسسات الأمريكية والأوروبية في اعتماد علم الجرافولجي مع المتقدمين للوظائف لدى تلك الشركات، ودخل الكمبيوتر إلى هذا العالم السري، واتسع استخدامه بصورة مخيفة، فأصبح تحليل النتائج يتم بدقة من خلال أجهزة الكمبيوتر، وأمكن من خلالها بيان الحالة التي عليها حالة المخ والجهاز العصبي والحالة النفسية، بالإضافة إلى العديد من الأمراض الأخرى التي بات تشخيصها من خلال الخط ممكناً. ومما يقوله علماء الجرافولوجي:

الخط الرديء يعبر عادة عن الاكتئاب والحالة النفسية السيئة.

أما أصحاب الخط المكتوب بسرعة والمائل عن السطر فإنهم يتمتعون بحالة نفسية جيدة. ويؤكد هذا الخط مدى التفاؤل الذي يشعر به صاحبه.

أما أصحاب الخط الكبير فهم مغرورون أنانيون!

وأصحاب الخط الأنيق المنظم رومانسيون، ويتمتعون بالثقة ومزيد من الأمل والطموح والحكمة والروية.

أما من يكتبون بصلابة ورسوخ ويضغطون على القلم بقوة أثناء الكتابة فقد أرجع العالم البريطاني آلن وينج الباحث بمركز أبحاث العظام في جامعة برمنجهام ذلك إلى التكافؤ الحركي الذي يرجع إلى وجود حركات متكورة بالمخ، تعطي الإشارة للعضلات عبر المخ والأعصاب، ومنها تنتقل إلى الأطراف؛ لتعبر بذلك عن الحالة المزاجية والنفسية للشخص، وتنتقل تلك الإشارات من عصب يوجد بأعلى المخ هو المسؤول عن الكتابة؛ سواء كتبنا بأيدينا، أو حتى بأرجلنا.

وقد نجا من هذه العقد كلها أصحاب الخط الجيد - مثلي أنا، فقد دفعتني هذه العقدة لأكون خطاطاً بالفعل - إذ تقول التحاليل إن فرصهم في الحصول على الوظائف أفضل، وفرصهم في حصد الدرجات أثناء الامتحانات أكثر بكثير ممن ينكشون نكش الفراخ أثناء الامتحان، فيسدوا نفوس المصححين، في حين ينال صاحب الخط الجميل المرتب درجة أعلى على الأقل بعشرين في المائة مما يستحق..

مش الرجل الحكيم قال إنه من مفاتيح الرزق؟!

وسوم: العدد 691