سوريا قبّان العالم

clip_image002_6cbaf.png

لا يمكن أن نختلف أن العالم كلّه يجتمع اليوم في سورية، وللمفارقة التاريخية فإنّه في هذه اللحظة الراهنة يجتمع في خطّ الموصل وحلب، الذي انطلقت منه حركة الإحياء الإسلامي مع آل زنكي في مواجهة الصليبيين، وهي الحركة التي أفضت في النهاية إلى صلاح الدين الأيوبي وتحرير بيت المقدس.

ونحن هنا لا نستعيد التاريخ لإسقاطه اعتباطًا على ما يجري، ولكن التاريخ ما فتئ يذكّر بنفسه، لا سيما وأن هذه اللحظة العربية شديدة الكثافة وعالية السيولة، تنهار فيها دول وتتغير فيها جغرافيات، وتتبدل فيها شعوب، ويتغير معها العالم، وكأن التاريخ نفسه يعلن أن الغد لن يكون أبدًا كالأمس، وأن ما مضى قد انقضى، وأن الآتي بوابة جديدة لزمن قادم، سيكون فيها كل شيء مختلفًا العالم والناس.

وأبلغ ما تكون لحظة التغيير هذه في سورية، فهي المخاض الأصعب والأطول والأعنف والأكثر دمًا ووجعًا، وهي الجغرافية بالغة الحساسية، امتداد العرب إلى الشمال، وبوابة الشرق إلى المتوسط، والمفتاح التاريخي لوحدة الأمّة وتحرير بيت المقدس، والجنوب الطبيعي لآخر حواضر المسلمين الكبرى، وهي الساحة التي يتصارع فيها العالم الآن.

سورية اليوم العنوان الآخر إلى جانب العراق في هجمة العالم على متن الأمّة، وامتدادها العمودي في التاريخ، أي ما يعرف بأهل السنة، وهي العنوان الآخر لمحاولة اقتلاع قلب الأمة، أي العرب السنّة، بما هم قلب الأمة، لا بما هم عصبية قومية، أو طائفة دينية، ولكن بما هم التعبير الأدق عن الأمة وامتدادها في التاريخ.

تتصارع على سورية، قوى استعمارية كبرى تتسم بذاكرة عدوانية تجاه المسلمين، الذين ومهما كانت حكاية التاريخ عنهم، فإنّهم وحدهم الذين ظلّوا في هذا العالم يملكون الممكنات الذاتية -ماديًّا وثقافيًّا- للمنافسة في الصعود الحضاري، وتُصارع في سورية أيضًا قوى إقليمية ذات نزعة ثأرية مع التاريخ، وانشقاقية في الأمة، فإذا حسم الصراع في سورية، فإنّ العالم كلّه سيتغير، ولن تتغير سورية وحدها، أو العرب وحدهم.

ولكن الأمة نفسها اليوم تعالج نفسها في سورية، تقتلع شوكها بيديها، وتنقّي نفسها من خطايا العقود الماضية بدمها، وتحسم كل جدالاتها، وتكثّف كل محاولاتها للإصلاح والتغيير، بتدافع مرير على أرضها، فإذا انكسر على أرضها الاستبداد المستند إلى مصالح الأقليات، والممثل للبنى العميقة القديمة المجسّدة لحقيقة الدولة الما بعد استعمارية، والقائم على ركائز البطش القهري الفوقي بأجهزة العسكر والأمن، فإنّ ذلك يعني انكسار النموذج في كل مكان في جغرافيا العرب، لاسيما إذا رافق ذلك الانكسار، انكسار الإرادات الاستعمارية، التي سبق لها وأن خطّت لنا زماننا الذي مضى، ثم تريد اليوم أن تخطّ لنا زماننا الآتي.

وفي كل الأحوال، ومهما كانت إرادات ومصالح القوى الدولية والإقليمية من حضورها على الأرض السورية، فإنّ الحقيقية الموضوعية المتعينة في الواقع، تقولك إنه إن أمكننا أن نحصي العناوين الكبرى التي تتصارع على الأرض السورية، وتحضر بشكل مباشر أو غير مباشر كأمريكا وروسيا وإيران وتركيا والإقليم العربي والكيان الصهيوني وقوى الثورة والحركات والفصائل الممثلة للأيديولوجيات والأفكار المختلفة، فإنّه لا يمكننا إحصاء كل العناوين الحاضرة على الأرض السورية.

كما أن الحقيقية الموضوعية المتعينة في الواقع تقول: إنّ هذه الكثافة جاءت في لحظة عربية شاملة، انطلقت من تونس ولم تزل مستمرة في سورية وغيرها، وقد ظلّ عالم العرب قلقًا، ومستقبل العالم كلّه غامضًا؛ فإن كان الأمر كذلك فعلاً، فإنّ سورية اليوم بلا شكّ قبّان العالم كله، وأن نتيجة الصراع فيها لن تغير المشرق العربي فحسب، ولكنها ستغير العالم كلّه!

وسوم: العدد 692