رحلة العشرون عاما إلى الاعتقال الإداري

د. عدنان ابو تبانة

المعتقل الإداري الدكتور عدنان ابو تبانة

مع بزوغ فجر هذا اليوم (يوم الجمعة 16\5\2014من سجن النقب الصحراوي) يكون لي أسبوعان عن الامتناع عن تناول الدواء، والذي سبب لي ألام  مبرحة، إضافة إلى حالة الهزال والضعف الشديد الذي أعاني منه نتيجة الإضراب المتقطع الذي أشارك فيه مع مجموعة من الأسرى المرضى الذين بدؤوا خطواتهم قبل أربعة وعشرون يوما من أجل نيل حريتهم والتخلص من نير الاعتقال الإداري الظالم، الذي حول حياتنا وحياة عائلاتنا إلى جحيم لا يطاق في قوانين دولة تدعي أنها واحة للديمقراطية، وهي ترث قانون استعماري عَفِناً، تستقوي فيه على ناشطين حقوقيين واجتماعيين ونواب وأساتذة جامعات، لا ذنب لهم سوى أنه لا دليل عليهم لتقويمهم لمحاكم شرعية، هذا القانون الفاشي والظالم الذي طبقته بريطانيا على العرب واليهود أثناء الانتداب، والذي اكتوى بناره الآلاف، منهم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق (مناحم بيغن) والذي اعتقل إداريا زمن الانتداب إلى توقيف العمل به أثناء فترة حكمه وهو الذي دفع أكبر قضاة إسرائيل (شمدار) والذي اكتوى أيضا بناره إلى الدعوى إلى إلغائه، وكذلك كان الدافع إلى وزير العدل الإسرائيلي السابق (يوسي بيلم) الى تقليل عدد المعتقلين الإداريين من بضعة فئات أواخر التسعينات إلى سبع معتقلين إداريين في العام 2000م.

بدأت رحلة اعتقالي الإداري بعد مجزرة الحرم الإبراهيمي في عام 1994م، حيث اعتقلت العشرات من أبناء الخليل والمئات من أبناء الضفة والقطاع في معتق اسمه (لينوبع كيلي شيفع) والذي قضى فيه جدي عبد المجيد أبو تبانه - رحمه الله – فترة من الاعتقال الإداري، حيث كان اسمه زمن الانتداب البريطاني (بعيرو حفير) عام 1947م ، ومن هنا بدأت رحلة المعاناة والظلم الذي لا زلنا نخوض غمارها منذ عشرون عاما، حيث حينها ولد ابني (عز الدين) ليصرخ في وجه العالم أين أبي؟ فيجيبه الحاضرون (في الاعتقال الإداري)، ويشاء القدر أن يجمعنا الله بعز الدين لنحتفل بعيد ميلاده العشرون في نفس السجن، لنحمل الهم والمعاناة من جديد، لا سيما المرض الذي يصيب رئتيه وكليتيه شفاه الله وعافاه، كما هو الحال معي في الضغط والسكري وأمراض أخرى نعاني منها في ظل أجواء السجون الممرضة.

لم تكتمل فرحة الإفراج في الاعتقال الأول حتى أفاجأ باعتقال جديد رافقه ولادة ابني صلاح الدين بعيدا عني، ثم وفاة والدي الذي لم أحضر وفاته ولو ألقي عليه لحظة الوداع الأخيرة لتكون حسرة لي حتى هذه اللحظات.

وكانت أعوام 96 و97 و98 والتي قضيتها في الاعتقال الإداري بالغة القسوة والصعوبة، ورغم مقاطعتنا للمحاكم الظالمة وإضراباتنا واحتجاجاتنا في تلك السنوات إلا أن هذه السياسة استمرت حتى قدوم الوزير (يوسي بيلم) وكان حينها وزيرا للعدل، حيث وعد بأن يقلل من أعداد الاعتقال الإداري وصدق فيما وعد، فلم يبق سوى سبعة في سجن تلمود للإداريين.

وبعد ذلك كله كانت عملية السور الواقي وَبالاً على أهل الضفة حيث سقط المئات من الشهداء والجرحى، وعاد الآلاف إلى الاعتقال الإداري وبأعداد هائلة، حيث اكتويت بسيف هذا الاعتقال منذ ذلك الحين 15 عشرة مرة، وكنت في كل عام وحتى هذه اللحظة ضيفا مقيما في سجن عوفر وسجن النقب، ومنذ ذلك التاريخ مكثت أكثر من 6 سنوات في الاعتقال الإداري ليولد أطفالي أمير ومصطفى بعيدا عني، ويموت الأقارب كذلك بعيدا عني دون توديع أي منهم، وكذلك لم أشارك عائلتي بفرحهم وأحزانهم، وتحقيق نجاحاتهم من تخرج من الجامعات وغيره كتخرج زوجتي رنا الجعبة من الماجستير في عام 2009م.

كان الاعتقال الأخير الأكثر قسوة والأكثر إيلاما فقد كنت أستعد  لزواج أولادي(محمد وأنس) وكنت مشغولا بكل تفاصيل إعدادات العرس من حجز للصالات والغداء وتوزيع بطاقات الدعوة وغيره من فعاليات الفرح، ولم يخطر لي بأسوأ أحلامي أن أعود للاعتقال في هذه الأجواء السعيدة، وبعد توزيع بطاقات الدعوة على المدعوين من أقارب وأصحاب وخلان، كانت المفاجأة والصدمة بل المصيبة، حيث حوصر البيت من قبل عدد من الجنود الإسرائيليون برفقة زباط المخابرات الذين أخبروني أني معتقل، فقلت لهم أن لدي مناسبة عرس ولدي، ولم يحصل شيء لو تأخر الاعتقال أياما معدودة بعد العرس، لكن القيود كانت أقوى من صرخاتي وآلامي، وحزن أهل البيت على هذا الاعتقال في هذه الظروف، والتي حولت الأفراح إلى أتراح، وقد أوصيتهم قلت لهم بأن يتموا العرس ويكملوا اجاراءات الزواج والفرح وكأني معهم، وأخفيت حزني وآلامي وقهري من السجان، وزاد قهري وألمي عندما نزلت إلى المحكمة ليخبروني بأني معتقل إداري بتهمة (الملف السري) الغاشم الظالم الذي لا أعرف ما هو، وتهمتي هي أني أحد وجهاء مدينة الخليل، وكأن الإصلاح بين الناس تهمة يحاكم عليها القانون، وأدركت بل كنت مدركا بأن المحكمة بعيدة عن العدالة والنزاهة، وأصبحت بدون أمل في الإفراج عني ودون أمل في تحقيق أحلامي، ودون أمل في تحقيق العدالة المفقودة.

الاعتقال الإداري الأول في العالم والذي مارسه الفراعنة على النبي يوسف عليه السلام، والاعتقال الإداري الأخير في العالم هو الذي يمارسه المدّعون أنهم أبناء يوسف عليه السلام.

بعد عشرين عاما من هذا الاعتقال القسري الذي أبعدني عن عائلتي وأطفالي وطلابي في الجامعة، أصبحت الحياة لا قيمة ولا معنى لها، وغدت الحياة والموت لدي سيان، بل إن الموت الشريف الكريم في معركة الأمعاء الخاوية، أهون ألف مرة من حياة مهينة ذليلة مملوءة بالظلم والقهر، نبعد بها عن أحبائنا وعائلاتنا.

أما آن لهذا القانون الظالم بأن ينتهي؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ويذهب إلى مزابل التاريخ؟؟؟؟؟؟؟؟

لأنه مخالف لشرائع الأرض والسماء التي تحفظ حقوق الإنسان لأخيه الإنسان في حياة كريمة ومحاكمة عادلة أمام قضاء عادل.

يشاء القدر أن يعتقل هذا السجن (النقب) الجد والأب والابن، هذا قدرنا ولكن إرادة الحياة وإرادة الحرية والكرامة هي أيضا قدر، واليوم نفر من قدر الله إلى قدر الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.