كفر قدوم

عبق من التاريخ

سامح عودة/ فلسطين

[email protected]

(1)

للصباحات الملونة بأريج الزيتون لحنها الباذخ، لسواعد الفلاحات وأهازيج العمات والخالات عبق الأرض الخالد، على تلك السفوح التي يتجمد الحزن عندها حكايا أخرى لم تروَ بعد، فأطياف الأنبياء الذين مروا من هناك ظلت ماثلةً على الصخور الزرقاء، وبقيت قصصهم سراً مشفراً لم يفهم بعد، هم القديسون بقدسيتهم .. والطاهرون بطهرهم، وفي تلك الأمكنة البعيدة على السفوح الباردة عاش أجداد الأجداد، حفروا الصخر وشيدوا بيوتاً من حجارة الأرض..!! والاهم أنهم غرسوا الزيتون على امتداد العين فأثمر، وصارت قصة الأمس نهجاً للابن قبل الأب، هذا النسيج المتداخل كألوان قوس القزح بقي متلازماً كروحٍ وجسد، هذه الشيفرا معقدة الرموز حفظت عن ظهر قلب، فلم تدعُ الحاجة للدخول في تحليل تلك الكمياء المعقدة، صارت معادلةً رياضية تفهم بالبديهة، حدها الأول .. الأرض والثاني الإنسان الحافظ للعهد، وبين هذين الحدين أدوات الحساب والقسمة والضرب المهم أن يظل التلازم بين الحدين ليكون الناتج عشقاً أسطورياً بامتياز..!!

كفرقدوم .. البلدة الفلسطينية التي عاش فيها الكنعانيون بعد أن مرَّ في المكان أبوهم إبراهيم عليه السلام، القرية التي تقع في شمال الضفة الغربية بالقرب من مدينة نابلس على امتداد الطريق الواصل إلى مدينة قلقيلية بقيت شامخةً في وجه الريح وحجارتها العتيقة خيرُ شاهد بصمت على الذين مروا من أمامها، حتى حجارة البيوت وردية اللون بات تعرفُ تلك المعادلة الرياضية " الأرض والإنسان" ، ربما كتابة سطرٍ عن تلك العلاقة المتداخلة  قد يكون طلاسم غير مفهومة، الأهم في الأمر أن الإنسان الذي بنى أول بيت في البلدة ورث قانون المعادلة للاحقين، أجزم أن عبقريته الفذة هي التي أبقت الأجيال في ذلك المكان الذي يعانقُ قرصَ الشمس..! .

البلدة التي نشأ على أرضها الولد وولد الولد والسابقون واللاحقون حاصرها الخراب من كل حدب وصوب فجاء اليهود وأسفل أهل الأرض يبحثون عن موطئ قدم لهم على أرضها، غير مدركين لحدي المعادلة المقدسة والتي ظلت محفورة في أدمغة أصحاب الأرض، أما اللقطاء فأرادوا أن يكونوا جزءاً من المشهد، جاءوا من هناك ومن بلاد الثلج كي يمارسوا عبثية خارقةً حاولوا غرس المنطقة بالمستوطنات المقيته، والتي بشكلها وشكل من يسكنونها الذين لا يتشبهون ذلك النسيج الفريد والمتلازم من العشق الواصل حدَّ التوحد بين الإنسان والأرض،  بالعكس أنهم يعيشون حالة هستيرياً غير واقعيه ظناً منهم ان سلب الأرض من الممكن أن ينسف المعادلة المقدسة ذات الحدين، غير مقتنعين بأن الحد الأول لا يمكن أن يفصل عن الثاني بسهولة، هذا المعتقد الغريب حاولوا أن يطبقوه في كفرقدوم عنوة..!! لهذا كان على حد المعادلة الثاني أن يعمل على بقاء الحد الأول – الأرض – متلازماً معه، لهذا قدمت القرية – وما زالت -  تضحيات جسام قوافل من الشهداء والجرحى والأسرى قرباناً عطراً فداءً للأرض التي هي مصدر وجود أهلها ففيها مأكلهم وفيها مزارعهم واليها يعودون ليدفنون تحت ثراها الطاهر..!!

عاشت القرية الوادعة وعبر سنوات طويلة من الاحتلال الإسرائيلي والتي قاربت على نصف قرن حالة مأساوية بسبب الاحتلال الجاثم على الصدور، وبسبب المستوطنات التي أصبحت تطوقها من كل حدب وصوب، لهذا السبب كان شبان القرية يتدافعون واحداً تلو الآخر للالتحاق بركب الثورة الفلسطينية، مدركين أن لحن الخلاص من الاحتلال لا يمكن إلا أن يعزف بالدم وحده، وأن تلك المستوطنات لا محالة زائلة، طال الزمان أم قصر، وعبر مراحل الثورة من الكفاح المسلح إلى انتفاضة الحجر وصولاً إلى المقاومة الشعبية في كل محطة من تلك المحطات سار قطار الأمل بالتحرير والخلاص من الاحتلال من أزقة القرية وشوارعها المتعرجة، وفي كل مرحلة سطرت معجزة انتهت بمدرسة المقاومة الشعبية التي تعدُ كفر قدوم فيها مدرسة من مدارس الوطن.