المصالحة الفلسطينية.. بين الواقع والأمل

نعمان فيصل

[email protected]

كانت سنوات الانقسام الفلسطيني السبعة بين حركتي فتح وحماس من أشد السنوات قسوة على النفس والمصير؛ إذ أوقد الانقسام نار الفتنة في البلاد وجمع لها وقودها وحطبها، حتى امتد لهيبها وعم جميع الوطن، الذي تصدع بناؤه إلى كيانين وحكومتين وسلطتين فلسطينيتين في مرحلة من أدق مراحل الحركة الوطنية، وكان السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، ويبحث عن إجابة شافية: هل يمكن أن يُختزل مائة عام من تاريخ فلسطين إلى مجرد صفحة منسية لأن ظروفها أصبحت أقوى منها، ولأن أعواد الانقسام أشعلت ثيابها في أحلك أزمانها؟

ومن الطبيعي أن يفكر الفلسطينيون في مصير بلادهم وسط هذه الظروف المتشابكة، وتعالت الصيحات خلال سني الانقسام، ودارت المناقشات وعقدت الجلسات لطرفي الانقسام للاجتماع على كلمة سواء، وانتهى هذا الحراك بإبرام اتفاق القاهرة (2011م)، وإعلان الدوحة (2012م)، لكن على أرض الواقع ظلت المصالحة الغائب الأكبر، حبراً على ورق تراوح مكانها، وتنتظر مَن يزيح الغبار عنها، فقضت على كل دعوة في الاطمئنان لتنفيذ بنودها، ولاقت الإهمال من كل مَن بيده الأمر فيها يطرقون أبوابها من دون جدوى. وأصبح كلا الجانبين يعلق إخفاقه على إخفاق الأخر، تماماً كالخلاف الذي تقع فيه جماعة من الجماعات حين تفشل في أمر فيبرر كل فريق فشله بفشل غيره. مما يدعو إلى الاسترابة في حسن نية الطرفين، وكانت نظرتهما إلى تلك المصالحة على قاعدة المنافع والمصالح، وفقا لما تحققه لهذا الحزب أو تلك الحركة على الأرض، فلم تكن صادرة من أعماق المصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، بما يحفظ كرامة الوطن وحقوقه، وغدا الراعي في كلا الجانبين بيدهما صولجان السلطة يسيران في طريق مظلم مليء بالمعاثر والعقبات.

واستمر الانقسام على ذلك وسط أنواء هذا الدور وتياراته الجارفة على مضض الانتظار ومرارة الكبت، حتى تكاتفت العوامل والمتغيرات المحلية والإقليمية، التي جاءت بمثابة انفجار جعل كلا الطرفين (فتح وحماس) يفيقون من سباتهم وبصرتهم بسوء حالهم، وإدراك حقيقة الخطر الذي بات يتهددهما على حد سواء. ففي غزة أدى توتر العلاقات بين حركة حماس وحلفائها في دول المنطقة التي توصف (بالراديكالية) المتمثلة في إيران وسوريا إلى تراجع مساندتها لحماس في غزة، وانحسار دعمها المادي والمعنوي لها، وكانت الضربة القوية التي تلقتها حماس بعد سقوط رهانها على حليفتها الإستراتيجية المتمثل في جماعة الإخوان المسلمين، بعد إزاحتهم عن المشهد السياسي في مصر الشقيقة الكبرى، وتفاقم الأزمات وتدهور الأوضاع المعيشية لسكان قطاع غزة، وعدم قدرة حكومة حماس على الوفاء بكل ما يتطلبه الحكم، وزاد من خطورة تلك الأزمات إخفاق الحكومة في غزة في الاهتداء إلى حل سليم لها بفعل أفاعيل الانقسام وسيطرة إسرائيل على المعابر والحدود.

ولم تكن الضفة الفلسطينية أفضل حالاً، فقد كانت الأخطار تسرع الخطا منها والمتمثلة في إخفاق المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية في الحصول على نتائج مشرفة، وجاء فشل المفاوضات انذاراً بأن الجهود الفردية لا تكفي لصد الغطرسة الإسرائيلية، وأن الأمر يتطلب تعبئة ووحدة الشعب الفلسطيني التي تتحطم على صخرتها استغلال إسرائيل للانقسام كنقطة إرتكاز لتخطي التمثيل الفلسطيني في تلك المفاوضات، وإلحاق الضرر بالشعب الفلسطيني وثوابته الوطنية من خلال زعمها أنها تفاوض قيادة فلسطينية غير قادرة على تمثيل شعبها، وأصبح الرئيس (أبو مازن) غير قادر على التكلم باسم الشعب الفلسطيني، خاصة عندما تتحدث حماس عنه كرئيس منتهي الصلاحية، رافق هذا كله تغلغل الاستيطان في الضفة الفلسطينية وابتلاع إسرائيل لكل المناطق الإستراتيجية حول القدس لتهويدها بشكل غير مسبوق، وتراجع مكانة القضية الفلسطينية باعتبارها قضية الأمة قاطبة على جميع المستويات كحركة تحرر وطني، وانحسار مساندتها مساندة حقيقية وجادة. وبدأ القلق يساور الأحرار من الشعب الفلسطيني حول مستقبله ومشروعه الوطني في تلك المرحلة الهامة من مراحل الانطلاق نحو السيادة والاستقلال.

ليس من شك أن تلك التطورات دفعت إلى نصرة المصالحة، والسير في طريقها قدماً إلى الأمام، وبعثت في النفوس أملاً جديداً في تحقيقها واقعاً ملموساً، عندما ترامت الأخبار عن تشكيل وفد منظمة التحرير الفلسطينية بتكليف من الرئيس محمود عباس، وإعلان قدومه إلى غزة لطي صفحة الانقسام، وتابع الناس على اختلاف مشاربهم في شوق وعناية وفي تريث وترقب هذا الأمر، الذي توج بالاتفاق على بدء تنفيذ اتفاق المصالحة، وتجلى في صورته الرائعة خلال حفل التوقيع بين وفد المنظمة وحركة حماس يوم الأربعاء 23 نيسان/ أبريل 2014 وتلقى الناس هذا الخبر كما يتلقون البشرى، وأملهم أن يكون هذا الاتفاق فاتحة عهد جديد. إلا أن لسان حالهم يقول: إن المصالحة ليست كلمة تردد في الفضاء بغير معنى تترجمها إرادة حقيقية وإجراءات ملموسة على الأرض.

واستشعاراً بعظم المسؤولية الوطنية؛ مسؤولية الضمير والوجدان ومسؤولية المستقبل، فعلى طرفي الانقسام (فتح وحماس) ومعهما باقي فصائل العمل الوطني والإسلامي على حد سواء، الشروع باعتبارهم أمناء على تحقيق آمال الناس وتطلعاتهم وأهدافهم، إجراء قراءة أركيولوجية ومراجعة فكرية وتقويم بنّاء تشمل فيما تشمل الشعارات المرفوعة والأهداف المرسومة والوسائل المطروحة والمواثيق المنشودة، بما يتلائم مع متطلبات المرحلة، ومعرفة أسباب ما آلت إليه الحالة الفلسطينية من تفتت وترهل وضعف، والإطلاع على العلل والأمراض التي أصابت الفلسطينيين ودفعتهم إلى أحضان الركود والتأخر، فالقضية الفلسطينية هي الوحيدة في العالم التي لم تنل استقلالها وحريتها حتى كتابة هذه السطور.

وهذا يحتم علينا جميعاً قراءة المرحلة السابقة بصورة تفسيرية لمعرفة حقيقة وضعنا، وما حققناه، وأين نقف نحن؟ وتحديد دور القوى المختلفة في العمل الوطني والاجتماعي، وأثره على الحياة بكل جوانبها، ولتلافي قصورنا وعوامل ضعفنا، لاستشراف المستقبل. فالتقويم هو الوسيلة المثلى القادرة على تحقيق استشراف المستقبل واستخلاص العبر. فقد آن الأوان لنعدل ساعتنا على النقد الذاتي البناء، رغم وعينا بما يثيره من اللبس والالتباس. بعيداً عن نظرية المؤامرة وخطاب الضحية دون مواربة أو تورية، بنظرة محيطة شاملة من أجل قيادة الحركة الوطنية إلى بر الأمان والاستقلال الكامل، وصولاً إلى مرجعية وطنية شاملة وإستراتيجية، تنسجم من التغيير الأيديولوجي، وتقديم أنفع الوسائل لتحقيق ذلك، على أسس راسخة من المشاركة الشعبية الواسعة في صنع القرار.

وتتلازم عملية التقويم والقراءة الأركيولوجية السير نحو حركة إصلاح شاملة، وغرس بذورها بإمعان، ومعرفة الأمراض، التي انتشرت سمومها في المجتمع الفلسطيني، وتقديم أنفع الوسائل في معالجتها، والوصول إلى الهدف السليم في سلامة واطمئنان.

فالإصلاح الذي يستند إلى أسس عميقة هو السبيل الأمثل أمام القيادة الفلسطينية، يستمدون من ينابيعه ما يساعدهم على مواجهة الأخطار، التي تحدق بوطنهم والدفاع عن قضيتهم العادلة، ولإيقاظ شعور مواطنيهم وحثهم على رفع شأن بلادهم إلى مدارج الرقي، التي يسود فيها القانون، ورأب الصدع في النسيج الاجتماعي جراء الانقسام. تماماً بأن تتخذ القيادة موقف الطبيب أمام المريض بفحص دائه ويتعرف على أسبابه ثم يصف العلاج. فلا بد من التغيير الجذري والكلي، وليس استبدال الطرابيش على نفس الرؤوس بل استبدال الرؤوس بالكامل، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب على قاعدة (لا يصح إلا الصحيح).

إن الشعب العربي الفلسطيني الذي يرفع راية الكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي، منذ ما يناهز القرن، ويقف صامداً في آباء ويحافظ على حيويته ونضاله في سبيل حريته، وينشد الحرية والمساواة والاستقلال ويتطلع إلى الارتقاء في شتى مظاهره السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يدرك أن النضال الفلسطيني في ساعة من أخطر ساعات المرحلة في مواجهة الخطر الإسرائيلي الذي بلغ درجة عالية في الغدر والمراوغة في استغلال الوقيعة بين حركتي فتح وحماس ودفع أبناء الشعب الفلسطيني إلى مشاكل داخلية تصرف أنظارهم عن قضيتهم المركزية وعدوهم الحقيقي.

إن شعبنا وقيادتنا مدعوة إلى تقويم وإصلاح ورقابة ووحدة تليق بحجم التضحيات الباهظة التي قدمها في تلك السبيل. وإن مصير بلادهم رهن بإرادتهم وإرادة شعبهم.