الأسد و"ما بعد الأبد"!
الأسد و"ما بعد الأبد"!
الياس خوري
منذ انفجار الاحتجاجات الشعبية في سوريا في آذار- مارس 2011، رفع انصار النظام الاستبدادي او ما يطلق عليه السوريون اسم ‘الشبيحة’، شعارين:
الشعار الأول هو ‘الأسد او نحرق البلد’، واشتعلت الحرائق، وامتلأت شوارع المدن والبلدات السورية بجثث الشهداء والضحايا. بدأ النظام باحراق البلد قبل ان تطلق المعارضة السورية رصاصة واحدة. الأزهار والمياه التي قدمها غياث مطر للجنود السوريين، قابلها النظام بإعادة جثة الشاب الى ذويه مشوّهة. والرد على مظاهرات درعا السلمية اتى عبر جثة الفتى حمزة الخطيب الممزقة، وحنجرة القاشوش اقتلعت قبل ان ترمى جثة المنشد الشعبي في نهر العاصي.
لم يسبق ان استخدمت الدبابات في قمع المظاهرات، ولم يسبق لسلطة ان تجبّرت كما فعل نظام الابن الذي لم يحفظ من تاريخ والده سوى مجزرة حماه، ووأد المجتمع السوري في الصمت، وسحق المعارضة في سجن تدمر الرهيب.
بدأ النظام في إحراق البلد بشكل همجي لا مبرر له. فالعنف الفائض الذي استخدم لم يكن بهدف قمع المتظاهرات والمتظاهرين من أجل اطفاء نار الاحتجاج الشعبي فقط، بل كان يهدف أيضا الى تلقين الشعب السوري درسا لن ينساه الى الأبد.
والأبد، كما يعلم القاصي والداني، هو هدف مجانين السلطة، ونقطة ضعف جميع المستبدين. واذا كان الجنون قد قاد الامبراطور الروماني كاليغولا الى ان يعلن انه يريد القمر، كما في مسرحية البير كامو التي تحمل اسم الامبراطور عنوانا، فإن الملك المحتضر كان له طلب واحد هو الخلود المستحيل، كما في مسرحية يوجين يونيسكو ‘الملك يموت’. غير أن الأسد الأب تفوق في خياله الإستبدادي على خيال أسلافه جميعا، فانتقلت اليافطات المؤيدة له من كونه رئيسا ‘الى الأبد’ الى اعلانه رئيسا ‘الى الأبد والى ما بعد الأبد’.
لم أستطع فهم معنى ما بعد الأبد إلا حين رأيت كيف يقوم الإبن بتنفيذ أبد والده عبر إحراق سوريا وتدميرها، ثم ينتقل الى مرحلة ما بعد الأبد عبر ترشيح نفسه كي يكون رئيسا على الركام.
‘الأسد أو نحرق البلد’، لقد نجح الشبيحة وحلفــــاؤهم الروس والإيرانيون والميليشيات التــــابعة في إحــــراق البلد، بل نجحوا في استدراج ميليشيات تشبهـــهم في استبدادها كي تتسلط على الشعب السوري، وتدعشه وتنصره على نفسه.
(وهذه مسألة يجب ان تفتح صفحتها كي نفهم من يتحمل مسؤولية هذا الإنهيار، وكي تتم محاسبة قيادات المعارضة والجيش الحر ايضا، من دون ان ننسى دور النفط الخليجي، ولؤم الغرب ونذالته ونذالة من عوّل على مساندته لقضية الحرية في سوريا).
كان الخيار هو الأسد أو احراق البلد، احـــترق البــــلد، وتشّرد الشعب، فلماذا الأسد بــــعد ذلك. حـــــرف ‘او’ يعني ان الحريق جاء بعد ان صـــار بقاء الأسد مستحيلا، او هكذا تدلّ العبارة، لكن يبدو ان للنظام طريقته الخاصة في إعراب اللغة.
لذا اندفع الإستبداد الى تطبيق شعاره الثاني، ‘الأسد او لا أحد’.فإذا كان الأبد يعني إحراق سوريا، فإن ما بعد الأبد يعني الدخول في عالم يصنعه خيال مريض، لا يشبع من سفك الدماء، ولم يعد له سوى هدف واحد هو استمرار الانتقام من ‘العبد’ الذي تمرّد على سيده الى ما لا نهاية.
الدعم اللامحدود الذي تلقاه ولا يزال يتلقاه النظام، سمح له بالذهاب الى شعاره الثاني، لكن الواقع السوري المأسوي أحدث عليه تعديلا، فاستبدل ‘أو’ ب ‘و’، والمسألة لا تقتضي جهدا لغويا خاصا، فاستبدال حرف عطف بحرف عطف آخر، مسألة في غاية البساطة. هكذا صار الشعار الفعلي هو ‘الأسد… ولا أحد’.
أي أن الخيار بين ‘السيد الرئيس′ (وهذا عنوان رواية أستورياس عن مآلات الاستبداد في أمريكا اللاتينة)، وبين الفراغ او اللا أحد لم يعد مجديا، لأن الرئيس نفسه صار هو هذا اللا أحد.
بشار الأسد سوف ينتخب رئيسا على إيقاع البراميل والدماء وفي بلد ممزق الأوصال، وسينعم باللقب سبع سنوات أخرى، أو هكذا يظن.
ولكن من هو هذا الرجل اليوم؟
هل هو الأمين القطري لحزب البعث، الذي تدعمه وتقاتل بالنيابة عنه ميليشيات أصولية عراقية ولبنانية؟
أم هو زعيم الممانعة الذي سلّم سلاحه الكيميائي مقابل ان يبقى في السلطة؟
أم هو بطل استكمال ذاكرة مذبحة تل الزعتر بحاضر مأساة مخيم اليرموك؟
أم هو بطل الجولان الذي لم تطلق فيه رصاصة واحدة منذ أربعة عقود؟
أم هو القائد العام لجيش لا يقود، بل يقاد من قبل الحرس الثوري الايراني؟
أم هو الإبن الذي نسي سر أبيه بأن تكون سوريا لاعبا إقليميا على جماجم أبنائها، فأبقى سور الجماجم الهولاكي، متخليا عن دوره كلاعب ومحولا سورية الى ملعب لكل من هب ّودب ّمن القوى الإقليمية والدولية؟
هل يحكم هذا الرجل ركام بلاده أم أنه صار جزءا من هذا الركام، وما عليه سوى ان يدفع الجزية لأسياد سوريا الجدد؟
الأسد … ولا أحد
الأسد هو اللا أحد
انه كائن ضبابي يسبح فوق الدم والأشلاء، ويدّعي انه سيكون رئيسا لجمهورية لم تعد موجودة.
هذا هو ‘ما بعد الأبد’، الذي بشرتنا به يافطة علقها الأزلام، في يوم مضى، على مداخل طرابلس الفيحاء، أو طرابلس الشام، او مدينة القهر والدم، التي لا تزال تدفع من دم أبنائها ثمن الأبد الأسدي وما بعده.