قُدْسِيَّةُ الحَيَاةِ
إنَّ الإنسان يبقى محور وجود هذا الكون حمّله أمانة الاستخلاف في الأرض..فهو الآمر الناهي بأمر ربه سبحانه..وقد بسط بين يديه سبل الهداية والرشد ورغبه فيها..وأبان له سبل الغواية والضلال وحذره منها..ومنحه حق الاختيار..فإما شاكراً وإما كفوراً..وأرسل سبحانه رسله مبشرين ومنذرين من غير سيطرة على الناس ولا إجبار..فهم أحرار فيما يختارون لحياته وأحرار فيما يعتقدون لقوله تعالى:"فذكّر إنما أنت مذكّرٌ* لست عليهم بمسيطر"ومنَّ الله تعالى على الإنسان بجملة من الكرامات والقداسَاتِ منها:
قدسية كرامته لقوله تعالى:"ولقد كرّمنا بني أدام". وقدسية حياته لقوله تعالى:"من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً". وقدسية ممتلكاته لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن دماءكم وأموالكم بينكم حرام". وقدسية حريته لقوله تعالى:"وما أدراك ما العقبة فك رقبة". وقدسية اختياره لقوله تعالى:"لا إكراه في الدين". وقدسية سد عوزه وفقره لقوله تعالى:"وإطعام في يوم ذي مسغبة". وقدسية وحدة الأسرة البشرية لقوله صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الناس إن أباكم واحد ". وقدسية وحدة مصدر الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم:"يا أيها الناس إن ربكم واحد ". وقدسية العدل بين العباد لقوله تعالى:"إن الله يأمر بالعدل والإحسان".وقدسية السلام بين العباد لقوله تعالى:"والله يدعو إلى دار السلام".وقدسية سلامة البيئة لقوله تعالى:"ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ". هذه إحدى عشرة قداسة قررها ربنا جلّ شأنه,لتكون المنظومة الربانية الخالدة,تقام بها وعلى أساس منها حياة الأفراد والمجتمعات,وعلى أساس منها والتزام قيمها وضوابطها تصرّف حياة الناس ومصالحهم,فهي المصدر الأساس لشرعة حقوق الناس,والمعيار الثابت لضبط مسؤولية النهوض بواجباتهم..وهي السبيل الراشد لتعايش بشري عادل وآمن..وذات مرة حدث خللٌ اُنتهكت به قدسية كرامة الإنسان,يوم أن لطم ابن حاكم مصر إذاك فتىً قبطيًا تفوق عليه في سباق خيل قائلاً له:"أتسبق ابن الأكرمين ..؟!"فأثار ذاك الانتهاك الوقح وتلك العبارة الذميمة غضب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فاستدعى عمرو ابن العاص حاكم مصر وولده الجاني,وعقد محكمة برئاسته رضي الله عنه,فلما ثبت الجرم على الجاني,قال للفتى القبطي:"خذ العصا واضرب بها ابن الأكرمين"ففعل الفتى القبطي ونفذ حكم إمام المسلمين,واقتص ممن اعتدى عليه وأهانه,فقال عمر للفتى القبطي:"ضع العصا على صلعة أبيه,فقال الفتي القبطي:"يا أمير المؤمنين لقد اقتصصت لنفسي ممن ظلمني,فما شأني وأبيه..؟فقال له عمر:"ما كان ليعتدي عليك إلا بسلطان أبيه"ثم التفت عمر إلى حاكم مصر وولده صارخاً بهما:"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"ودوت صرخة عمر هذه في أذن الزمان,ورددتها الوهاد والسهول والجبال طرباً بها,وها هي اليوم تتصدر المواثيق والعهود الدولية عرفاناً بعدلها.ومن لطائف ما علمت,أن خطيب الثورة الفرنسية- مسيو لا فاييت-عندما تلا المادة الأولى من بيان الثورة الفرنسية,والتي تنص:"يولد الرجل حراً ولا يجوز استعباده"صمت لا فاييت هنيهة ثم رفع رأسه ليقول":أيها الملك العربي عمر بن الخطاب أنت الذي حققت العدالة في التاريخ كما هي يوم قلت:"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار"وقبل الإسلام وعلى وجه التحديد قبل أربعة عشر قرناً ونيف تداعى قادة العرب في مكة المكرمة,لعقد ندوة في بيت أحد قادتهم عبد الله ابن جدعان من أجل:"نصرة المظلوم ووضع حد للظلم والظالمين"وشهد رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ذاك اللقاء,وكان يومئذ لا يزال فتىً اصطحبه عمه أبو طالب إلى تلك الندوة, واتفق المؤتمرون أن يبرموا بينهم حلفًا سموه:"حلف الفضول"وبعد الإسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخبراً من حوله:"لقد شهدت في الجاهلية حلفًا في دارعبد الله ابن جدعان لنصرة المظلوم,لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت"مؤكدًا أن كرامة الإنسان,وكبح الظلم والظالمين أمر ينبغي أن يتعاون الناس جميعاً من أجله,لأنه واجب رباني مقدس.
وسوم: العدد 710