محاولة شاقة أشق كثيرا من نطقها باللسان ومن إدراك معناها
محاولة شاقة أشق كثيرا من نطقها باللسان ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل ومزاولتها عمليا شيء آخر غير إدراكها عقليا
يتشوق كل من اطلع على هذا العنوان المثير إلى معرفة طبيعة هذه المحاولة المستعصية بهذا الشكل . وأدعو كل متشوق إلى ذلك أن يتريث قليلا ويقرأ قول الله عز وجل : (( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا )) صدق الله العظيم . هذه الآية الكريمة تتضمن تلك المحاولة المحيرة للأذهان والمستعصية على الإدراك وعلى التطبيق والتنزيل . ولقد أعجبني ما جاء في تفسير هذه الآية في ظلال القرآن لصاحبه سيد قطب رحمه الله ،وسأنقل كلامه مع بعض التصرف من خلال القفز على بعض العبارات قبل التعليق عليه . يقول رحمه الله : " منزّل هذا القرآن يعلم حقيقة المجاهدة الشاقة التي تتكلفها إقامة العدل على هذا النحو ، وفي النفس البشرية ضعفها المعروف وعواطفها تجاه ذاتها ، وتجاه الأقارب الضعاف من المتقاضين ، وتجاه الأقوياء أيضا ، تجاه الوالدين والأقربين ، وتجاه الفقير والغني ، تجاه المودة ، وتجاه الشنئان . والتجرد من هذا كله يحتاج إلى جهاد شاق ... وهي محاولة شاقة أشق كثيرا من نطقها باللسان ، ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل .إن مزاولتها عمليا شيء آخر غير إدراكها عقليا . ولا يعرف هذا الذي نقوله إلا من يحاول أن يزاول هذه التجربة واقعيا ... والهوى صنوف شتى ، حب الذات هوى ، وحب الأهل والقارب هوى ، والعطف على الفقير في مواطن الشهادة هوى ، ومجاملة الغني هوى ، ومضاراته هوى ، والتعصب للعشيرة والقبيلة والأمة والوطن والدولة في موضع الشهادة والحكم هوى ، وكراهة الأعداء ، ولو كانوا أعداء الدين في موطن الشهادة والحكم هوى ." انتهى كلام سيد قطب رحمه الله ، وفيما يلي التعليق عليه :
إن الله عز وجل يلزم المؤمنين بأن يكون قوامين بالقسط ، وكلمة قسط كما يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسيره التحرير والتنوير كلمة معربة أدخلت في كلام العرب لأنها تدل في اللغة المنقولة منها على العدل في الحكم ، وأما لفظ العدل فأعم من ذلك . والدليل على الإلزام هو صيغة المبالغة في قوله تعالى قوّامين بالقسط . ولقد جعل الله تعالى ذلك شهادة له أي لأجله، ذلك أن القوّام بالقسط أي بالعدل في الحكم يفعل ذلك لأجل الله تعالى، ولا يعدل عن ذلك يمينا ولا شمالا ، ولا يخاف في الله لومة لائم ، ولا يصرفه عن ذلك صارف كما جاء في تفسير ابن كثير رحمه الله . ويلزم القوّام بالقسط أن يشهد على نفسه أو ضدها وعلى أقرب الناس إليه أو ضدهم سواء كانوا والدين أو غيرهم من الأقربين دون أن يصرفه التعاطف مع الفقير أو مجاملة الغني أو مضارته عن ذلك .ولقد حذر الله عز وجل من اتباع الهوى في ذلك أو اللي فيه أي الانحراف عن الشهادة بالقسط أي الكذب أو الإعراض وهو ترك الشهادة أو كتمانها . وجاء الوعيد الإلهي شديدا في قوله تعالى : (( فإن الله كان بما تعملون خبيرا )) أي سيجازيكم عن ذلك ، ويكفي أن يتذكر المؤمن أن الله عز وجل خبير بما يعمل ليستشعر ماذا وراء قوله تعالى من تهديد خطير يهتز له كيانه كما قال سيد قطب. ولقد ورد في كتب التفسير أن الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم ، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال لهم : " والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ ، ولأنتم أبغض إليّ من أعدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملني حبّي إياه ، وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم " فقالوا : " بهذا قامت السماوات والأرض " . فهذا هو التطبيق أو التنزيل الذي تحدث سيد قطب رحمه الله عنه ، ذلك أن حبّ ابن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم ،وبغضه ليهود خيبر لم يمنعه من أن يكون قواما بالقسط شاهدا لله تعالى . ولو جار على أهل خيبر حبا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بغضا فيهم لم ينفعه ذلك شيئا يوم الحساب.
ولنعد إلى أنفسنا وواقعنا اليوم لنقيس المسافة التي تفصلنا عن الالتزام بما ألزمنا الله عز وجل من قوامة بالقسط وشهادة له دون اتباع هوى مهما كان نوعه ، ودون أن نلوي أو نعرض عن هذه الشهادة . إن الأمر في غاية الصعوبة كما مر في كلام سيد قطب رحمه الله . فمن منا يستطيع أن يشهد على نفسه أو ضدها أو يشهد على قرابته أو ضدهم أو يشهد على ذي جاه و سلطان أو ضده، وفي ذلك ما فيه من مغامرة ومجازفة و مضرة وخطورة وتهديد ؟ أية امرأة تستطيع اليوم أن تقف موقف زوجة العزيز وتشهد على نفسها أنها هي من راودت يوسف عليه السلام عن نفسه ؟ وأي رجل يستطيع مثل ذلك حين تكون الشهادة ضده ؟ ومن ذا الذي يزعم أنه يستطيع الشهادة ضد نفسه وضد والديه وضد أقاربه إذا كان بالطبع بينه وبينهم مودة ، ولم يكن بينهم عداوة وشنئان ؟ ألم يعد ليّ الشهادة والإعراض عنها دأبا مألوفا عندنا ؟ بل قد صارت الشهادة موضوع مساومة تباع وتشترى ، وصار هوى المال متبعا يحمل على لي الشهادة والإعراض عنها . ومن ذا الذي يملك اليوم الجرأة للشهادة ضد أصحاب السلطة على اختلاف أنواعها ومستوياتها ؟ إنها محاولة شاقة بالفعل كما قال سيد قطب رحمه الله ، ولا يطيق ذلك إلا من قوّاه الله عز وجل عليه .
وسوم: العدد 711