الأُمُّ في فردوسها .. أفراحٌ وجِراح!
هل تستقيم الحياة من غير الأمهات؟! وهل بمقدور الرجل أن يعيش بلا أم ترعاه، وتكلؤه، وتدعو له في الصباح والمساء، في سرورها، وابتهاجها؟! وكيف يقدر الرجل على مجابهة صعاب الحياة اليومية؛ بلا قلب أمه التي تدعو له؛ فتستجيب لدعواتها السماء؟!
فالأم هي الحياة! والحياة هي قلب أُم، لا يعرف إلا لغة التسامح، ولحن الوفاء، ونشيد البراءة، وسيمفونية العطاء، وموسيقى الصفح الجميل!
آه .. ما أقساك أيها الرجل، وأقسى قلبك، وضميرك الذي بات متحجراً؛ فقد أخذت من أمك الحياة، وسر الوجود، والطعام، والشراب، والرعاية، والسهر، والعطف، والحنان؛ ثم ركلتها؛ فلم ترع حقها؛ فدفنتها في أوهام بطشك، وجافيت نبلها، وحبها! وصادمت بجبروتك آمالها في التماس برك، ووصلك! لقد عاديتها، وأهنتها، وقسوت عليها؛ فلم تراع لها أي دور، أو مكانة! لقد هجرتها، وطردتها، وتخليت عنها!
آه .. ما أفظعك أيها الابن غير الشفيق! ما أتعسك، وأتعس أيامك؛ إذ كيف تقدر على الحياة، وأنت محروم من الرحمات المباركات، والدعوات الطيبات، والفيوضات الملائكية، وأسرار السكينة، ومصدر الأمن والأمان؟!
فلماذا اختلف رجل اليوم عن رجل الأمس في نظرته للأم؟!
وهل زاحم الفيسبوك، والإنترنت الأم في عرشها؟! فلم تحظ من الجيل الجديد إلا بالهجران، والمعاملة السيئة!
ولعظيم دور الأم؛ التي هي جنة الدنيا، وواحة الحب، ورمز السلام.. تجلت قرائح الشعراء؛ فتسابقت في كشف ينبوع المرحمة، وأنهار الخلق الجميل، وبحار المودة؛ المتمثلة في قلب الأم الرءوم!
انظروا إلى الشاعر السوري/ منير الكلاليب، وهو يفتخر بالأمهات؛ اللاتي لولاهن؛ لهلك الرجل! فيقول في قصيدته"تكريم الأم": "كثيرات صنوف الأمهات/ وأولاهن بر الأمهات/ وما ولد المسيح وما رعاه/ سوى امرأة من المتبتلات/ وما آسى رسول الله إلا/ خديجة يوم لم يك من أساة/ ولولا الشمس وهي من الإناث/ لظل هلالكم من المظلمات"!
وها هي ذي الشاعرة السورية/ مقبولة الشلق في قصيدة"أمي فداك الروح" تصور فرحة الأكوان بالأمهات؛ فقد هفا إليهن الربيع، وآذار، والنسيم، والأقحوان، والشذا، والنحل، والعندليب عرفاناً بهن، ولأنهن مبعث الخير للرجل؛ فقالت: "أمي، وكل الكون هب مقدماً/ أحلى الهدايا تبعث التذكارا/ ماذا أقدم للحنان هدية/ هذا فؤادي صغته أشعارا/ أمي فداك الروح يا أحلى المنى/ يا دوحة منحت شذا وثمارا/ يا باقة من ياسمين عاطر/ ذرت أريجاً ينعش الأزهارا/ تعطين، لا ثمناً يثير مطامعاً/ كل الأنام يقدم الأسعارا".
فالأم مخلوق مقدس سماوي، من فردايس الجنان بدايته، ونهايته؛ فهي من طينة غير طينة الرجل! ولذلك يقول الشاعر السوري/ عبد القادر غزال: "الأم لفظ جميل صاغه الباري/ من لحن تغريد أطيار بأيّار/ والأم لفظ تعالى الله صائغه/ من نفحة الناي، أو من لحن قيثار/ مهما أشدت بوصف الأم لا قلمي/ يوفيه حقاً، ولا تحويه أفكاري"!
الأمهات .. بلسم الحياة
لكن الأمهات لا يعرفن لغة الجفاء، والقطيعة، والتجافي، والشقاق! إنهن بلسم الروح، وصنو الخير، وعذوبة العطاء، وعمود البيت. ولهذا قال الشاعر اللبناني/ يوسف يونس عن الأم: "ونظمت في فجر الحياة قصيدة/ عنوانها: ماما، عليك مصيري/ وتلوتها بين اللفائف هامساً/ يا صدر أمي: هل تكون نصيري؟/ فتنهدت أمي، وأدنت ثديها/ مني، وقالت: من رأى تقصيري؟/ شأن الحياة وغايتي أن ترتوي/ وأنا الأمومة، مهجتي بعصيري"!
بل؛ ذهب الشاعر اللبناني/ فؤاد جرداق إلى الصداح بالأم التي هي رمز إلهي؛ في نشر الفضائل، والأخلاق، والسماحة؛ فقال: "لقد سألت النهى عن سر تكويني/ وبالشكوك سهام الروح تكويني/ أجابني العقل: لا تنس الأمومة إن/ ذهبت تبحث عن سر وتبيين/ فقلت: لا شئ في ذا الكون يصرفني/ عن الظنون سوى أم تواسيني/ لو لم تكن في الورى مخلوقة لغدت/ إلهة، إنها بعض البراهين"!
فلننظر .. معاشر الرجال، والأبناء: لماذا تخلينا عن أمهاتنا؛ وتناسينا فضلهن علينا؟! ولماذا بخلنا ولو بكلمة وفاء، وحب لهن في كل يوم؟!
فهل أصبح الوفاء مجرد يوم فقط نحتفي فيه بالأم؛ ونظل في هجرها عازمين، وفي نسيانها متجاهلين ؟!
مخلوق من الجنة
ثم نسأل بعد ذلك جزعين قائلين: لماذا سيطر علينا الحزن، وخيَّمتْ الكآبة، وضربت علينا التعاسة بنسجها، وقتلنا الخراب، والاكتئاب؟!
فأفِقْ .. أيها الابنُ الموجوع؛ فاذهب إلى أُمِّك الآن، وقبِّل يدها، واطلب حنانها، وصفحها، ودعواتها، وبِرَّها الحنون، وانحنِ على قلبها السندسي، وابكِ صاغراً كالطفل؛ فـ"الجنة تحت أقدام الأمهات" فعساكَ؛ أن تُطهِّر نفسك من أمراضك الدفينة .. وإلا حلَّتْ عليك اللعنات تلو اللعنات! ثم لا تلومنَّ بعد ذلك إلا نفسك!
وسوم: العدد 711