الفائزون والخاسرون في استفتاء تركيا الدستوري
كان أمس يوما عصيبا وشديد التوتر في عواصم عربية وآسيوية وأوربية تراقب ما يحدث في تركيا ، حيث الاستفتاء الدستوري التاريخي الذي يحول نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي ، مع حزمة إصلاحات تقلص نفوذ المؤسسة العسكرية وأجهزتها خاصة القضاء العسكري في الحياة المدنية وتوسع من صلاحيات رئيس الجمهورية خاصة في اختيار الوزارة ورئاستها ، وقد نجح رجب طيب أردوغان ، الرئيس التركي والرجل الأقوى في البلاد حاليا ، نجح في تحقيق هدفه وهدف حزبه ، بتفوق : نعم ، في الاستفتاء ، ولو بنسبة ضئيلة ، ولكنها تعادل حوالي مليون وأربعمائة ألف مواطن تركي تقريبا ، وهو ما يعني أن تركيا انتقلت الآن إلى نظام جديد وتوازنات سياسية جديدة .
التعديلات الدستورية الجديدة ـ في حد ذاتها ـ لا تحمل معالم قلق حقيقي على الديمقراطية أو انتقاص منها ، بل تحمل تعزيزا للحياة المدنية ، وحماية لدور البرلمان الرقابي والتشريعي وإضافة بند يمنح البرلمان الحق في محاكمة رئيس الجمهورية وعزله ، ولكن المعركة في صميمها كانت تتمحور حول شخصية أردوغان ، والقلق الغربي من "الكاريزما" التي يحملها وإمكانية أن تتحول تركيا ـ بعمقها العربي والإسلامي ـ إلى قوة مستقلة تخصم من النفوذ والمصالح الأوربية في الشرق ، ولذلك كثيرا ما كان الإعلام الغربي يلمز أردوغان ويغمزه بحكاية استعادة السلطنة العثمانية ، وهو كلام سخيف وخارج أي منطق سياسي وواقعي ، ولكنه يكشف عن عمق الإحساس بالخوف من عودة تركيا لدورها الكبير في الشرق على حساب المصالح الغربية ، ولذلك حمل الإعلام الغربي وساسة غربيون كثيرون بعنف بالغ على الاستفتاء ، وهاجموا أردوغان بضراوة ، أكثر مما هاجموا أي دكتاتور في الشرق أو الغرب ، واعتبروا أن الاستفتاء كارثة ، وهددوا بعقوبات على تركيا إن اختار الشعب تمريره ، وهذه كلها هستيريا بعيدة عن المنطق والعقل ، خاصة وأن أردوغان لا يمكنه أن يستفيد من التعديلات الجديدة إلا بعد عامين ، وبعد أن يخوض انتخابات رئاسية جديدة يحتكم فيها للشعب ، ويمكن أن يخسرها إذا ساء أداؤه السياسي وأداء حزبه في العامين المقبلين ، وبالتالي يمكن أن يأتي شخص آخر بصلاحيات الرئاسة الجديدة .
نظام بشار الأسد في سوريا وكذلك النظام الإيراني هاجموا الاستفتاء ونددوا به باعتباره يؤسس للديكتاتورية ، وهو كلام يصبح نكتة عندما يصدر من دمشق التي غيرت دستور الدولة في ربع ساعة من أجل تمكين بشار من وراثة والده في رئاسة الجمهورية ، وإيران التي يحكمها الملالي بقبضة أمنية من حديد وبولاية المرجع الديني الأعلى ، بينما كانت دول الخليج بالكامل ـ باستثناء الإمارات ـ ترحب بنتائج الاستفتاء ، لأنها تنظر إلى تركيا كثقل إسلامي سني في وجه خطر التمدد الإيراني الذي يهيمن الآن على أربع عواصم عربية : بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء ، ويهدد البحرين والكويت والسعودية بشكل مباشر وعلني ، أما الإمارات فهي تعادي أردوغان لتعاطفه مع الإخوان ، وكذلك كان الموقف المصري والذي بدا كوميديا في شاشات الفضائيات الموالية للرئيس السيسي ، عندما نددوا بالقمع والاستبداد وخنق الإعلام وإعلان الطوارئ وسجن المعارضين وإهانة القضاء ، ... في تركيا ! .
الملاحظة المهمة أن رؤساء الوزارات "العلمانية" التي سبقت فترة حزب العدالة والتركي ، حزب أرودغان ، كانوا في طليعة المرحبين بالتعديلات الدستورية الأخيرة ، مثل السيدة "تانسو شيلر" ، وهؤلاء هم أكثر الناس دراية بضعف النظام البرلماني في تركيا ، والشقوق التي يتسلل منها الضغوط الأجنبية لتوجيه بوصلة الحكم ومغامرات العسكر هناك حيث يقومون بالانقلابات كل عدة سنوات ثم يحلون البرلمان والحكومة ، وأغلب تلك الانقلابات كانت بالتنسيق مع سفارات دول غربية كبيرة ، وهو ما أضعف تركيا وشل قدرتها على وضع خطط تنموية وتحقيق استقرار سياسي ، وخاصة في بلد يعاني متاعب انقسامات إسلامية وعلمانية وكردية وعلوية ، وهذا هو الدافع الأساس الذي جعل أردوغان وحزبه يصرون على تحويل النظام السياسي إلى رئاسي ، لضمان استقرار الدولة وحماية مدنيتها ، رغم أنهم دفعوا ثمن ذلك غاليا من قبل وما زالوا .
أردوغان نجح في تحقيق هدفه ، لكن النتائج الضعيفة التي حققها في الاستفتاء من شأنها أن تفرض عليه التواضع السياسي ، فالرئيس التركي بذل جهدا هائلا طوال الشهور الماضية ، وجاب البلاد طولا وعرضا ، وراهن على زعامته ، وبدا الإرهاق عليه واضحا يوم الاستفتاء ، وحشد حزبه وحكومته ووزراءه داخل تركيا وخارجها ، ومع ذلك لم ينجح سوى في تحقيق حوالي 51% ، وهو ما يمثل إنذارا شعبيا له ولحزبه ، وأن الشعب التركي سيضع ممارسات أردوغان خلال الفترة المقبلة تحت منظار دقيق ، وأي خطأ في الحسابات سيدفع ثمنه غاليا في أول انتخابات نيابية ورئاسية .
كما أن نسبة المشاركة الأسطورية ، والتي وصلت إلى 80% ، تعني أن الشعب التركي وصل لمرحلة من الوعي بمصالحه وشئونه العامة وإصراره على حماية مستقبله إلى درجة لا تسمح لأي شخص بالتلاعب به أو تحديه ، لا أردوغان ولا غيره ، ثمانون في المائة تعني أن الكبار والصغار والشيوخ والعجائز والنساء والرجال زحفوا من كل فج عميق في ربوع البلاد من أجل التصويت ، وكل منهم على يقين أن صوته قد يحسم مصير وطنه ، لذلك إذا كان هناك من يستحق التهنئة والتحية أولا وثانيا وثالثا ، فهو هذا الشعب العريق ، قبل أي حزب وقبل أي زعيم .
الاستفتاء التركي يؤكد من جديد على أن الديمقراطية واحترام مخرجاتها ، رغم كل ما فيها من نقص ، إلا أنها تبقى الآلية الأكثر صحة وجدوى ـ في عصرنا الحالي ـ لحماية الأوطان وتحقيق نهضتها وصناعة الولاء الكامل لكل شبر فيها.
وسوم: العدد 716