صورة من تاريخنا الإسلامي
رفع قائد الجيش التقارير إلى الخليفة عن البلاد المفتوحة
أ ـ المراد بالعنوان: هو: أن يرفع قائد الجيش الإسلامي الفاتح إلى الإمام تقريراً عن البلاد التي فتحها المسلمون، مع بيان السياسة التي سيتبعها في الحكم.
ب ـ الصلة والاستدلال: صلته ما ذكروه: أن الخلفاء في صدر الإسلام أمَروا أمراءَ جيوشهم وعمالَهم، أن يرسِم كلٌّ منهم في تقريرٍ يبعثه، خُطَطَ البلاد التي افتتَحها، مع بيان سياسة الحكم التي سيتَّبعها فيها.
وذكروا من أمثلة تلك التقارير: أن عَمْرَو بن العاص رضي الله عنه لما فتح مصر، قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: صِفْ لي مصر، فأرسل إليه كتاباً يصفُها له، ويشرح له السياسة التي سيتَّخذها فيها، ومما جاء في هذا الكتاب:
" مصر تُرْبَة غَبْراء ـ سهلة الإنبات ـ وشجرة خضراء ـ كثيرة الشجر الأخضر ـ طولُها شهر وعرضُها عشْر ـ لعله يريد أن الماشي يقطعها طولاً في شهر، وعرضاً في عشرة أيام ـ يكتنفها جبلٌ أغبر ـ يحيط بها جبل ضارب إلى السواد ـ ورمْلٌ أعْفَر ـ أبيض مائل إلى الحمرة أو الصفرة ـ يَخُطُّ وسطها نهرٌ ميمونُ الغدواتِ مباركُ الرَّوْحَات، يجري بالزيادة والنقصان ـ يزيد ماؤه وينقص في أزمنة معينة ـ كجري الشمس والقمر ـ أيْ: جريانه مستمر ـ تَمُدُّهُ عيونُ الأرض وينابيعها، حتى إذا عَجَّ عجيجُه ـ تعاظم ماؤه ـ وتعاظمت أمواجه، وانقطعت وتسَرَّبت في الأرض، لم يكن وصولُ بعض أهل القرى إلى بعضٍ، إلا في خِفافِ القوارب وصغار المراكب، فإذا تكامل في زيادة نَكَص ورجع وذهب على عقِبه، كأول مما بدَا في شدَّته وطَمَى في حِدَّتِه ـ نقص في شدة كما زاد بقوة ـ فعند ذلك يخرج القوم ليحرثوا بطون أوديته وروابيه، يبذرون الحب، ويرجُون الثمار من الرب، حتى إذا أشرق، سقاه النَّدى، وغَذَّاه من تحته الثرى، فعند ذلك يعظم محصوله، ويَدُرُّ حِلابُه، ويكثر فيه ذُبابُه، فبينما مصر يا أمير المؤمنين دُرَّةٌ بيضاء، إذا هي عَنْبَرة سوداء، ثم هي زَبَرْجَدَةٌ خضراء، فتبارك الله الخالق لما يشاء، الذي يصلح هذه البلاد ويُنمِّيها، ويُقرُّ قاطنيها فيها، أن لا يُقبَل قولُ خسيسِها في رئيسِها، وأن لا يُسْتأدَى ـ يُطلَب أداء ـ خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يُصرَف ثلثُ ارتفاعها ـ لعله يريد دخلها ـ في عمل جسورها وتُرَعِها ـ أماكن سيلان الماء ـ فإذا تقرَّر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفِّق في المبدأ والمال ".
فلما ورد هذا الكتاب على عمر رضي الله عنه قال: لله دَرُّك يا ابن العاص، لقد وصفتَ لي خبراً كأني أشاهده.
قلتُ: ويمكن أن يستدل لأهمية معرفة ولي الأمر ـ أياً كان ـ بأحوال البلاد المفتوحة والسياسة التي ستُتَّبع فيها بما جاء في الحديث الصحيح: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهلَ كتاب، فإذا جئتَهم فادْعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلى الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلوات في كل يوم وليلة، فإن أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكَرائمَ أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ).
وجاء في حديث آخر: أنه لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث معاذاً رضي الله عنه إلى اليمن قال له: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال أقضي بكتاب الله، قال فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبِسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر العلماء في شرح الحديث الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم عرَّف معاذاً رضي الله عنه بأنه سيأتي قوماً أهل كتاب، فكان هذا منه كالتوطئة للوصية ليستجمع هِمَّته عليها، لكون أهل الكتاب أهلَ علم في الجملة فلا تكون مخاطبتهم كمخاطبة الجُهَّال من عبَدة الأوثان.
ثم أرشده إلى أن يتلطَّف بهم، ويبدأ معهم في الخطاب بالأهم فالأهم، ثم أرشده إلى حسن سياستهم،وأن يتجنَّب ظلمهم فلا يأخذ نفائسَ أموالهم، وأن يتجنب أيضاً دعوة المظلوم، التي هي في موضع الاستجابة عند الله تعالى.
قلتُ: ولا يخفى ما في هذا الحديثين من بيانٍ لأهميةِ معرفة أولي الأمر ـ أياً كانوا ـ بأحوال وخُطَطَ البلاد التي يذهبون إليها فاتحين، ومعرفة سياسة الحكم التي سيتَّبعونها في التعامل مع الناس.
والله ولي التوفيق..
وسوم: العدد 718