قدوة القيادة في الإسلام 20

قدوة القيادة في الإسلام

الحلقة العشرون : بناء المؤسسات

د. فوّاز القاسم / سوريا

لقد كان من أولوياته صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة ( بداية مرحلة التمكين في المدينة المنوّرة )  بناء مؤسسات الدولة على بساطتها في تلك الأيام ، ولعل من أهمها :

1. المؤسسة التربويّة ( المسجد الشريف ) :

لقد ذكرنا في القسم الأول من هذه الدراسة ، بان إقامة الصلاة وبقية الشعائر الدينية في مسجد جامع ، وبصورة جماعيّة منظمة ، لم تكن من أولويات مرحلة الاستضعاف المكيّة ، ليس لأنها غير ذات أهميّة بالنسبة للمسلمين في تلك المرحلة _ فلقد كانت من أهم أركان بناء الشخصيّة الدعوية الربانيّة ، أو ما أُطلق عليها بالقاعدة الصلبة _ بل لأن فقه المرحلة ، وأولوياتها ، لم يكن ليسمح بإقامتها بصورة عزيزة جماعية ، وفي مسجد جامع ، وهي من خصائص مرحلة التمكين ، مصداقاً لقوله تعالى : (( الذين إن مكنَّاهم في الأرض أقاموا الصلاة،  وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ،  ونهوا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور )) الحج ( 40).

ولذلك فقد كان من أولى أعماله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ، بناء المسجد الجامع ، ولهذا دلالة هامة ينبغي على الدعاة أن يقفوا عندها طويلاً ، لأن دور المسجد لم يكن يقتصر على إقامة شعائر الدين ، على أهميتها ، ولكنه كان يمثل بالنسبة للمسلمين أهم مؤسسة في الدولة ، بل هو المؤسسة التي تنبثق منها كل وزارات الدولة على الإطلاق ..

فهو يمثل القصر الجمهوري ، وديوان الرئاسة ، ومقر القيادة العامة ، وغرفة العمليات ، ومقر وزارات : الحرب ، والتخطيط ، والتدريب، والتربية ، والمالية ، والعدل ، ومقر المحكمة العليا ، ودار القضاء، والجامعة ، ومجلس الشورى .. الخ

بالإضافة لكونه دار ضيافة لمن لا مأوى له من المهاجرين ، الذين تركوا دورهم وأموالهم ، والتحقوا بدار الإسلام ، مضحين بكل ما يملكون من أجل دينهم ، وعقيدتهم ، ومبادئهم …

ولقد كانت كل التوجيهات والتعليمات وأوامر الوحي وتشريعاته تنطلق من هذه المؤسسة المباركة ، لتتحول إلى مشاريع عمل ، وخطط تنفيذية ، تساهم في بناء صرح الدولة الإسلامية العتيدة .

2.المؤسسة العسكريّة :

نؤجل الحديث عن هذا الموضوع ، إلى فصل الجهاد في سبيل الله .

3. المؤسسة المالية :

لا توجد دولة بدون أموال ، ولذلك فقد كان من أهم أولوياته صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة ، هو الاهتمام بالجانب المالي .

ولقد كانت أهم المصادر المالية للدولة الوليدة في بداية إقامتها هي :

أ . الصدقات والتبرّعات :

فلقد كانت أول خطبة خطبها الرسول صلى الله عليه وسلم ، تتحدث عن واحد من أهم فروض الوقت والمرحلة في حينه ، وهو البذل والإنفاق في سبيل الله ، وذلك لسد الثغرات المادية التي نجمت عن الهجرة وترك الأهل والأموال والأولاد .

قال ابن هشام : وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن قام فيهم ، فحمد الله ، وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال:

(( أما بعد .. فقدّموا أيها الناس لأنفسكم .. تعلمنَّ والله ، ليصعقنَّ أحدكم ،  ثم ليدعنَّ غنمه ليس لها راعي ، ثم ليقولنَّ له ربُه ، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه : ألم يأتك رسولي فبلغك ، وآتيتك مالاً وأفضلت عليك .!؟

فما قدمتَ لنفسك .!؟ فلينظرنَّ يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً ، ثم لينظرنَّ قدامه فلا يرى غير جهنم ، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ، ومن لم يجد فبكلمة طيبة ، فإنها تجزى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)). هشام1 (501) .

ب. الإخاء والتكافل :

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحرص منذ اللحظة التي وطئت فيها أقدامُه أرضَ المدينة المنورة ،على أن يفهم المؤمنين من حوله أنهم يمثلون جسداً واحداً ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر .

ولذلك فقد سن لهم قانون الإخاء والتكافل العام ، وطبق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هذا القانون على أكثر من دائرة :

* الدائرة الأولى : دائرة المهاجرين من قريش ، فلقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين من قريش وذلك قبل الهجرة ، ثم أكد هذه الاخوة بعد الهجرة مباشرة ، وبدأ بنفسه الشريفة ، فآخى بينه وبين ابن عمه علي بن أبي طالب ، ثم ثنى بعمه الحمزة بن عبد المطلب ، فآخى بينه وبين مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنهم جميعاً ، وهكذا بالنسبة لبقية المهاجرين من قريش …

* الدائرة الثانية : بين المهاجرين من قريش ، وبين المؤمنين الأنصار من أهل يثرب .

يقول ابن القيم : ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ، في دار أنس بن مالك ، وكانوا تسعين رجلاً ، نصفهم من المهاجرين ، ونصفهم من الأنصار ، آخى بينهم على المواساة ، ويتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام ، وبقي ذلك سارياً إلى حين وقعة بدر ، فلما أنزل الله : (( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله )).الأنفال ( 75)

ألغي عقد التوارث ، وبقي عهد الأخوة في الدين .

ومن هذا النص الذي أورده ابن القيم ، نفهم أن هذه المؤاخاة ، لم تكن مجرد إجراء شكلي أو معنوي فحسب . 

بل كانت مؤاخاة حقيقية ، ويترتب عليها كل ما يترتب على أخوة النسب من حقوق وامتيازات ، كالمساعدة ،  والإنفاق ، والحماية ، والنصرة ، والوراثة بعد الموت ..الخ

ولقد سجلت لنا صفحات التاريخ صوراً مشرقة باهرة ، لا يمكن أن تحصل إلا في أمثال هذه المجتمعات الإيمانية الراقية .

فقد روى البخاري : أنهم لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بين عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن الربيع ، رضي الله عنهما ، فقال سعد لعبد الرحمن : إني أكثر الأنصار مالاً ، فأقسم مالي نصفين . ولي امرأتان ، فانظر أعجبهما إليك ، فسمِّها لي أطلقها ، فإذا انقضت عدتها فتزوجها .! فقال له عبد الرحمن : بارك الله لك في أهلك ومالك ، ولكن دلوني على السوق ، فدلوه على سوق بني قينقاع ، فذهب فتاجر ، حتى كفاه الله .

* والدائرة الثالثة : المؤاخاة بين المؤمنين المهاجرين من قريش  وإخوانهم الأنصار من يثرب من جهة ،  وبين كل من لحق بهم ،  وجاهد معهم ، من المؤمنين من قبائل العرب الأخرى ، من جهة ثانية.

فقد جاء في الوثيقة ( الدستور ) التي أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم ((هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب  ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم ، إنهم أمة واحدة من دون الناس )). هشام1 (501)

ج. الزكاة :

ولقد فرضت في السنة الثانية من الهجرة ، بعد زكاة الفطر ،  على الراجح ، وقيل بل فُرضت في مكة إجمالاً ، وبُيّنت في المدينة تفصيلاً..

وهناك عشرات الآيات القرآنية ، والأحاديث النبويّة الشريفة ، التي تحث عليها ، وتبين أهميتها ، وليس هنا مجال تفصيلها ..

د. الغنائم والأنفال :

وهي الأموال التي  يغنمها المسلمون من أعدائهم في ساحات القتال ، وبالتالي فهي حالة مرتبطة بالجهاد والقتال ، ولقد كانت أول دفعة حقيقيّة من الغنائم ، تلك التي غنمها المسلمون في معركة بدر الكبرى  في السنة الثانية من الهجرة الشريفة ، ونزلت فيها سورة كاملة سميت باسم الأنفال ، لتنظيم توزيع هذه الغنائم … 

ه. الفيء :

وهو المال الذي يحصل عليه المسلمون ، بدون أن يوجفوا عليه خيلاً ولا ركاب ، كما حصل عندما فتح الله عليهم حصون بني النضير .

وهناك مصادر أخرى للأموال ، لسنا هنا بصدد تفصيلها …