حق المواطنة (الجنسية) للأقليات غير المسلمة في الدولة الإسلامية
حق المواطنة (الجنسية) للأقليات غير المسلمة
في الدولة الإسلامية
دندل جبر
إن من أوائل آثار عقد الذمة بين السلطة المسلمة وبين الأقليات غير المسلمة حق الإقرار في دار الإسلام على وجه الدوام والتأبيد.
يقول ابن القيم في عقد الذمة:
"هو العقد الذي يتم بين السلطة المسلمة وغير المسلمة يكتسب بموجبه هؤلاء حق الإقامة الدائمة في دار الإسلام، ويتولى المسلمون حمايتهم والدفاع عنهم" (أحكام أهل الذمة لابن القيم – جـ2 ص475 – دار العلم للملايين – بيروت).
ويقول الدكتور عبد الكريم زيدان:
"وعلى هذا يمكن القول بأن عقد الذمة عقد بمقتضاه يصير غير المسلم في ذمة المسلمين، أي في عهدهم وأمانهم على وجه التأبيد، وله الإقامة في دار الإسلام على وجه التأبيد" (الدكتور عبد الكريم زيدان – أحكام الذميين والمستأمنين – ص22).
وكما أنه لا يجوز شرعاً إبعاد المواطن المسلم من دار الإسلام ونفيه منها فكذلك لا يجوز نفي أحد من أهل الذمة (الأقليات غير المسلمة) من هذه الدار، ويتبع حق الإقامة الدائمة في دار الإسلام، حق المواطنة أو ما يسمى في العصر الحاضر (الجنسية) وهو حق ملازم للحق الأول أو نتيجة طبيعية له.
وأساس حق المواطنة أو الجنسية هو:
أ- عقد الذمة الذي تكتسب بموجبه الأقليات غير المسلمة الإقامة الدائمة في دار الإسلام.
ب- الوثيقة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة المنورة واستقر بها، والتي توضح الوضع الجديد لأهل المدينة ومن يتبعهم من المهاجرين والأنصار واليهود والمشاركين.
وهذه بعض بنود هذه الوثيقة (الصحيفة)، وقد سماها البعض (دستور المدينة) وقد احتوت (47) بنداً كما أوردها الدكتور محمد حميد الله في كتابه القيم (مجموعة الوثائق السياسية).
بسم الله الرحمن الرحيم
1- هذا كتاب من محمد النبي، رسول الله، بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم.
2- أنهم أمة واحدة من دون الناس.
16- وأنه من تبعنا من يهود، فإن له النصرة والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
20- (ب) – وأنه لا يجير مشرك مالاً لقريش، ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن.
23- وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد.
24- وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين.
25- وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يُوتِغ إلا نفسه وأهل بيته. ثم يتبع ذلك بقية قبائل يهود وبطاناتهم بيهود بني عوف ويقول إن ليهود بني فلان ما ليهود بني عوف.
37- وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
37- (ب) وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم.
39- وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
40- وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
41- وأنه لا تُجارُ حرمةٌ إلا بإذن أهلها.
42- وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.
43- وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
44- وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.
45- وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين.
47- وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لم تحصر الوثيقةُ المواطنةَ في الدولة الإسلامية الأولى في المسلمين وحدهم بل نصت على اعتبار اليهود المقيمين في المدينة من مواطني الدولة، وحددت ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات.
بل إن بعض النصوص تشير إلى واجبات على المشركين من أهل المدينة مما يشير إلى أنهم دخلوا في حكم الدولة الجديدة وخضعوا لأسس تنظيمها التي وردت في وثيقتها.
ويلاحظ المرء – من خلال النظر في نصوص هذه الوثيقة – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يجعل من المدينة المنورة وطناً موحداً للمسلمين واليهود والمشركين، وأن يجعل من هذه الشرائح التي تختلف في دياناتها وعقائدها شعباً واحداً، فعقد بينهم معاهدة تحقق تلك الأهداف التي أرادها لهم ونظم العلاقة بينهم بما ينسجم وتحقيق الدولة الإسلامية التي ترعى مواطنيها، ولو اختلفت دياناتهم وعقائدهم، وتحكيم شرع الله في علاقاتهم بعضهم مع بعض، وبينهم وبين الآخرين.
ويقول فضيلة الأستاذ الشيخ محمد متولي الشعراوي:
".... وكان هذا العهد دستوراً لأهل المدينة جميعاً مسلمين وغير مسلمين، لم يترك صغيرة ولا كبيرة تؤدي إلى الألفة والمحبة والتعاون إلا نص عليها وقررها.
وبهذا يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أقام وحدة وطنية داخل المدينة، يعمل الجميع في إطارها، ويلتزمون بكل بنودها، متمتعين بعدل الإسلام وسماحته، لكل منهم حقوق وعليه واجبات، ومن أوفى فله الوفاء، ومن نقض العهد فعليه إثم ما نقض وعقاب ما جنى..
وإذا كان اليهود أقلية في مجتمع المدينة، فإن الإسلام جعل لهذه الأقلية حقوقاً وجعل عليها واجبات، وهذا شأن الحكم العادل الذي لا يعتدي على ضعيف ولا يظلمه ولا ينكر حقاً من حقوقه ما دام يؤدي ما عليه من واجبات، فالكل سواسية أمام القانون، ومن يأثم على القانون فإنما إثمه على نفسه". (يوميات الأخبار – صحيفة الأخبار– 9/7/1993 – نقلاً عن الدكتور إدوار غالي الذهبي – معاملة غير المسلمين في المجتمع الإسلامي – طـ 1 – 1993م – مكتبة غريب – ص119).
ويرى الدكتور مصطفى محمود عفيفي – بحق – أن النص في (الصحيفة)... قد سبق المواثيق العالمية والدساتير الوطنية بقرون عدة في مجال تطبيق مبدأ الحرية الدينية في ظل ظرف الأمن والسلام الاجتماعي القائم على مبدأ الوحدة الوطنية بين ذوي العقائد الدينية المختلفة" (نقلاً عن الدكتور إدوار غالي الذهبي – المصدر السابق ص 118 – 119).
وبالنظر إلى بنود هذه الوثيقة (الصحيفة)، وإلى العهود والمواثيق التي كتبت بين المسلمين وغيرهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعده من الخلفاء، وإلى الأحاديث النبوية وأقوال الخلفاء الراشدين ومن تبعهم من أمراء المسلمين، ومواقف فقهاء المسلمين المتضمنة للوصايا بأهل الذمة (الأقليات الدينية) وإنصافهم، وعدم ظلمهم وإيذائهم وحسن معاملتهم، فقد صرح الفقهاء: أن الذميين (الأقليات الدينية في الدولة الإسلامية) هم من أهل دار الإسلام، ومعنى هذا أنهم يعتبرون من أفراد شعب دار الإسلام، ومن تبعة هذه الدار، فهم إذن مرتبطون بالدولة الإسلامية بما يسمى رابطة الجنسية، وهذا واضح: فكما أن قول الفقهاء أن المسلمين من أهل دار الإسلام يفيد أن المسلمين من تبعة هذه الدار ويحملون جنسيتها، فكذلك قولهم إن الأقليات الدينية من أهل دار الإسلام يفيد أنهم من تبعة هذه الدار ويتمتعون بجنسيتها...
ورد في وصية الإمام علي - رضي الله عنه - إلى مالك بن الأشتر النخعي حين ولاه مصر: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحسب أن يعطيك الله من عفوه" (نهج البلاغة – من خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – جـ 3 ص84).
وللجنسية مفهومان أو معنيان:
معنى اجتماعي: وهو انتماء الشخص إلى أمة من الأمم.
ومعنى سياسي وقانوني: وهو انتماؤه إلى دولة من الدول.
وهذا الأخير هو المقصود في بحثنا، وعليه تكون الجنسية هي علاقة قانونية بين الفرد ودولة معينة. (انظر جابر جاد عبد الرحمن – القانون الدولي الخاص – ص51 – 52. والدكتور عبد الكريم زيدان – أحكام الذميين والمستأمنين – ص57).
"ومفهوم الجنسية عرف في الشريعة الإسلامية وإن لم يطلق عليه الفقهاء اصطلاح الجنسية، والدليل على ذلك أن الدولة عرفت في الشريعة الإسلامية – كدولة واقعة بالفعل – وهي التي سماها الفقهاء دار الإسلام، كما أن عناصر الدولة من شعب وإقليم وحكومة توافرت في الدولة الإسلامية (دار الإسلام) والأفراد – وهم المكونون لعنصر الشعب – يوصفون بأنهم (أهل دار الإسلام) أي من تبعة الدولة الإسلامية... فرابطة أفراد شعب دار الإسلام بهذه الدار رابطة سياسية، كما أن هذه الرابطة قانونية لأن آثاراً قانونية تنتج عنها، ويلتزم بها الفرد والدولة، وهذه الآثار هي التي يتمتع بها الفرد في ظل الدولة، والواجبات التي يلتزم بها قبلها" (الدكتور عبد الكريم زيدان – أحكام الذميين والمستأمنين – ص61).