القرآن الكريم والعقلانية، العقلانية السياسية... مثالاً
لقد أسس القرآن الكريم قواعد راسخة للعقلانية، وسوف نعرض في هذه المقالة ضرباً من هذه العقلانية مما يتعلق بالسياسة؛ لما لمسناه في السنوات الأخيرة من تشغيب على هذا الجانب في الإسلام؛ وذلك من خلال العناوين الآتية :
1- وحدة الجنس البشري : وهي من أبرز ملامح العقلانية السياسية التي أسسها القرآن، فهو يقرر في آيات عديدة أن البشر كلهم يعودون إلى منشأ واحد : (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) سورة النساء ١ . وبتقرير القرآن الكريم أن أصل كل البشر واحد؛ يقطع الطريق على كل النزعات العنصرية والقومية والشوفينية (chauvinism) التي تزعم خيرية بعض الأمم على غيرها من الأمم، هذه النزعات السياسية المنحرفة التي كلفت البشرية ضريبة باهظة، كما فعلت مثلاً "النازية (Nazism) التي ظهرت في ألمانيا في منتصف القرن العشرين، والنزعة الفاشية (Faseism) التي ظهرت في إيطاليا في الفترة نفسها، وقد كانت هاتان النزعتان معا وراء إشعال حرب عالمية طاحنة أودت بملايين لا تعد ولا تحصى من البشر !!
وحقيقة وحدة الجنس البشري لا تتعارض مع تقرير القرآن الكريم لوجود ميزان آخر للتمييز بين البشر؛ ألا وهو "التقوى" الذي ورد ذكره في آيات وأحاديث نبوية عديدة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع : ( يا أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا، لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى) فلا تعارض لأن ميزان التقوى اختص الله به نفسه دون خلقه، فهو وحده الذي يعلم التقي من عباده عن غير التقي، ومن ثم لا يسع لأحد من البشر التشكيك بتقوى الآخرين، أو يدعي فضل تقواه عن تقوى الآخرين، لأن التقوى حالة نفسية خافية لا يعلمها إلا الله عز وجل . أما نحن البشر فنحكم على الظاهر من الأقوال والأفعال الظاهرة، فلا يجوز اتهام أحد بعدم التقوى أو الكفر أو الضلال؛ ما لم يصدر عنه عمل أو قول ظاهر جلي يشهد بذلك. وبهذه الرؤية القرآنية يقطع القرآن الطريق على المتشددين والمغالين الذين يسارعون إلى تكفير الناس . وبهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر . فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه ) متفق عليه واللفظ لمسلم .
2 - المساواة : ومع تأكيد القرآن الكريم على وحدة الخلق فهو يؤكد المساواة بين البشر من حيث الآدمية، ويصرح بكرامة البشر عامة دون تمييز، فيقول تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) سورةالإسراء 70 ، وهو ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي تقدم .
3 - حرية الاعتقاد : وهي ملمح أساسي من ملامح العقلانية السياسية في القرآن، وهي تعني حق الحرية لكل إنسان في الاعتقاد والعبادة؛ وهي من الحريات الأساسية التي كفلها الإسلام وعبر عنها القرآن الكريم في العديد من الآيات، منها قوله تعالى : ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) سورة البقرة 256. وقوله تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) سورة الكهف 29 . وامتثالا لهذا التوجيه الرباني الحكيم دأب المسلمون على دعوة الناس إلى الإسلام دون إكراه ولا إجبار؛ فهذا مثلا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يَمُر بعجوز نصرانيَّة، فيَعرِض عليها الإسلامَ قائلاً : أَسلِمي تسلمي، إن الله بعث محمدًا بالحق، قالت : أنا عجوز كبيرة والموت إليَّ قريب، فلم يزد عمر رضي الله عنه أن قال : اللهم اشهد. وتلا قوله تعالى : (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) ومضى .
وفي حرية الاعتقاد يتجلَّى تكريمُ الله تعالى للإنسان، واحترام إرادته وعقله وفِكْره ومشاعره، وترك أمره لنفسه، وتحميله تَبَعة عمله وحساب نفسه، وهذه بلا جدال قمة التحرُّر الإنساني؛ هذا التحرر الذي تُنكِره على الإنسان في عصرنا مذاهبُ مُعتَسِفة، ونُظُم مُذِلَّة، لا تسمح للإنسان أن يعتقد إلا ما تُمليه عليه تلك النظم الوضعية، فيكون بين خيارين أحلاهما مر : فإما أن يستسلم لهذه الأنظمة ويتخلى عن عقله ويخالف ضميره؛ وإما أن يرفض هذه الأنظمة فيتعرَّض للسجن والتعذيب والموت ! ومادام لحرية الاعتقاد هذه المكانة في حياة الإنسان فلا غرابة أن يحفل بها القرآن الكريم في العديد من آياته، ولا غرابة أن يعدها في مقدمة حقوق الإنسان، لأن الإنسان بهذه الحرية يَثْبت له وصف "إنسان" ومن يَسلب الإنسان حريته في الاعتقاد إنما يَسلُبه إنسانيَّته وآدميته.
ولم يكفل الإسلام للناس حرية الاعتقاد وحدها وإنما كفل لهم كذلك حرية الدعوة للعقيدة التي يؤمنون بها، وكفل لهم الحماية والأمن من الأذى والفتنة، كي لا تكون حرية الاعتقاد مجرد حرية بصورية لا مدلول لها في واقع الحياة، ويجمع فقهاء الإسلام على أن الإنسان الذي يكره على دخول الإسلام، لا يصح إسلامه؛ قال الإمام ابن قدامة في "المغني" : "وإذا أُكرِه على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن، فأسلم، لم يَثبُت له حُكْم الإسلام، حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا" .
وإيمانا من المسلمين بحرية الاعتقاد وجدناهم – عبر التاريخ – يتركون لغير المسلمين حرية ممارسة شعائرهم الدينية التي تتَّفِق مع عقائدهم، كما حافظ المسلمون على البيوت التي يمارسون فيها عبادتهم، وكان المسلمون يمنعون الاعتداء على هذه البيوت والقائمين فيها، سواء في حالتَي السِّلم والحرب، والوثائق التاريخية الكثيرة تثبت هذه الحقائق؛ وقد ورد في وصايا الخلفاء لقادة الجيوش الإسلامية ما يؤكد هذه الحقائق، وكذلك ما ورد في المعاهدات التي أبرمها المسلمون مع الآخرين، منها على سبيل المثال "العهدة العمرية" التي أبرمها الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أهل بيت المقدس.
وها هو الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه يُوقف أسامةَ بن زيد وجيشه المتوجه لفتح الشام فيوصيهم قائلا : "يا أيها الناس، قفوا؛ أُوصِيكم بعشرٍ، فاحفظوها عني : لا تخونوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغدِروا ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تَعقِروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مُثمِرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسَهم في الصوامع، فدَعُوهم وما فرَّغوا أنفسهم له"
ويلفت القرآن الكريم نظر النبي - صلى الله عليه وسلم – والدعاة من بعده إلى هذه الحقيقة، فيقرر أن مهمة النبي هي البلاغ ، ودعوة الناس إلى الإيمان بلا قهر ولا إكراه، فقال تعالى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ) سورة الشورى 48 . وقال تعالى : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) سورة الغاشية: 22 ، وقال تعالى : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) سورة يونس 99،
ومع كفالة الإسلام حرية الاعتقاد، نجده قد كفل كذلك حرية الحوار والمناظرات الدينية ودعا المسلمين أن يحاوروا الآخرين بالحسنى، قال تعالى: (ادع إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) سورة النحل 125، بل حذر من مجادلة المخالفين إلا بالحسنى (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) سورة العنكبوت 46.
والإسلام لم يكتف بالدعوة إلى حرية الاعتقاد وحوار المخالفين بالحسنى؛ وإنما منع كذلك السخرية من عقائد المخالفين، فقال تعالى : )ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ... الآية (سورة الأنعام 108 .
وعلى هدي هذه المبادئ السمحة ينبغي أن يكون حوار المسلمين لمخالفيهم، ومن هذا المنطلق أوصى الله نبيه موسى وأخاه هارون - عليهما السلام – بالتعامل الحسن مع أشد طاغية في التاريخ هو "فرعون" فقال تعالى: (اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ) سورة طه 43 و 44 .
4 - مفهوم المواطنة : وهو المفهوم الذي يختصر كل ما قدمناه ، وهو من المفاهيم السياسية الأولى التي أسسها النبي صلى الله عليه في الدولة الإسلامية الأولى التي أقامها في المدينة المنورة؛ وقد تأسس هذا المفهوم بكل جلاء ووضوح في "الصحيفة" التي أبرمها النبي في العام (622م) مع مختلف مكونات مجتمع المدينة، على اختلاف معتقداتهم وأعراقهم، واعتبرهم كلهم "أمة واحدة" كما ورد في الصحيفة؛ أي اعتبرهم مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات دون تمييز .
وهكذا كان مفهوم "المواطنة" محورا أساسيا من محاور الدستور الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم لأول دولة في الإسلام، بل أول دستور مكتوب في العالم، وهو يعد في نظر المؤرخين والباحثين القانونيين من أهم وثائق التاريخ العربي الإسلامي، فهو أول شكل من أشكال التنظيم السياسي والإداري والاجتماعي للدولة، لأنه أرسى مفهوم المواطنة لرعايا الدولة دون النظر إلى الانتماء الديني أو القبلي، فهو قد نص على المساواة بين رعايا الدولة؛ ومن المعروف أن المساواة هي أولى أسس المواطنة في العرف القانوني المعاصر !
وللدلالة على ما نقول، نذكر هذا النص الحرفي الذي جاء في الصحيفة : "هذا كتاب من محمد رسول الله، بين المؤمنين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس". فقد ذكرت الصحيفة كلمة "الأمة" للدلالة على أن قاطني هذه الدولة يشكلون معا أمة واحدة، وأنهم متساوون فيها دون تمييز .
5 - الوسطية : وهي من ملامح العقلانية السياسية التي أسسها القرآن الكريم؛ وهي تعني الاعتدال في أمور الحياة كلها،
وقد دعا القرآن إلى التوسط والاعتدال في آيات عديدة ، وورد في الحديث : (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا) رواه البخاري ، وقد دعا القرآن إلى التوسط لأنه يتفق مع الفطرة الإنسانية، فالإنسان خلق ضعيفاً يعتريه الفتور والكسل، وتعرض له الشواغل، ويتقلب بين قوة وضعف، وصحة ومرض، فكان الاعتدال هو المناسب له وهو المتفق مع حاله، وإن أحس من نفسه همة عالية وقوة فجنح إلى التشدد فمرده إلى الضعف وانقطاع المسير . وقد جعل الله الأمة المسلمة أمة وسطية بكل معاني الوسط :
* فهي وسط في النبوة والرسالة، فلا هي غلت في نبيها كما غلت النصارى في نبيهم، ولا هي أساءت إليهم وآذتهم وقتلتهم كما فعلت يهود.
* وهي أمة وسط في الشريعة والأحكام، كما يقوله الإمام الشاطبي رحمه الله: "الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جارٍ على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال"
* وبالجملة فالأمة المسلمة وسط في الأمم بمجموعها لا بجميعها .
* وأهل السنة والجماعة وسط في الأمة بين فرقها ونحلها المتنازعة في مسائل الدين.
وقد حدد بعض العلماء ضوابط المنهج الوسطي الذي أسسه القرآن الكريم فيما يأتي :
الملائمة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر. فهم النصوص الجزئية للقرآن والسنة في ضوء مقاصدها الكلية. التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة. التشديد في الأصول والكليات، والتيسير في الفروع والجزئيات. الثبات في الأهداف، والمرونة في الوسائل. الفهم التكاملي للإسلام بوصفه: عقيدة وشريعة، دنيا ودين، ودعوة ودولة. ملاحظة تغير أثر الزمان والمكان والإنسان في الفتوى والدعوة والتعليم والقضاء. التركيز على المبادئ والقيم الإنسانية والاجتماعية، كالعدل والشورى والحرية وحقوق الإنسان. تحرير المرأة من رواسب عصور التخلف، ومن آثار الغزو الحضاري الغربي. الدعوة إلى تجديد الدين من داخله، وإحياء فريضة الاجتهاد . الاستفادة بأفضل ما في تراثنا : من عقلانية المتكلمين، وروحانية المتصوفين، واتباع الأثريين، وانضباط الفقهاء والأصوليين. الجمع بين استلهام الماضي، ومعايشة الحاضر، واستشراف المستقبل
6 - العدل : وهو من القيم الجوهرية التي أسسها القرآن الكريم، وجعلها من مُقَوِّمَاتِ الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية، وجعل إقامةَ العدل بين الناس هدف الرسالات السماوية كلها، فقال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) سورة الحديد 25، وليس أدل على قيمة العدل من أن يكون هو المقصود الأول من إرسال الله تعالى رُسُله كما تقرر هذه الآية الكريمة؛ فبالعدل أُنْزِلَتِ الكتب، وبُعِثَتِ الرسل، وبالعدل قامت السموات والأرض .
وقد دعانا سبحانه إلى العدل حتى مع الأعداء والمبغضين، فقال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) سورة النساء 135، وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) سورة المائدة 8، والشنآن هو البغض، ومعنى هذا : لا يحملنَّكم بُغْض قوم على ظلمهم، بل التزموا العدل في كُلِّ أَحَدٍ؛ صديقا كان أم عدوا .
فالعدل في الإسلام لا يتأثر بحب ولا بغض، فلا يفرق الإسلام في العدل بين قريب وبعيد، ولا بين غني وفقير، ولا بين كبير ولا صغير، كما لا يفرق بين مسلم وغير مسلم، بل يتمتع بالعدل جميع المقيمين تحت سلطان الإسلام، سواء منهم المسلمون وغير المسلمين !
ومن أكبر المواقف التي تدل على عدل الإسلام، قصة أسامة بن زيد مع المرأة المخزومية التي سرقت، فقد أراد أسامة – الذي كان مقربا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - أن يتوسَّط لها كي لا يقام عليها الحد وتقطع يدها مراعاة لحسبها ونسبها في قومها؛ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، وقام في الناس فخطب خطبة بليغة بين فيها منهج الإسلام وعدله، وكيف أنه سوَّى بين أفراد المجتمع دون تمييز، فكان ممَّا قاله في هذه الخطبة : ( إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْـحَدَّ، وَايْمُ اللهِ! لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا ) أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء . فانظر كيف ساوى النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة - مع حبه الشديد لها - ببقية الناس .
وحقيقة العدل كما يقررها القرآن؛ أنه ميزان الله في الأرض، به يُؤْخَذُ للضعيف حَقُّه، ويُنْصَفُ المظلومُ ممن ظلمه، ويُمَكَّن صاحب الحقِّ من الوصول إلى حَقِّه من أقرب الطرق وأيسرها، والعدل في الإسلام واحد من القيم التي تنبثق من العقيدة؛ فلجميع الناس في مجتمع الإسلام حَقُّ العدالة وحقُّ الاطمئنان إليها.
فالعدل الذي يؤسسه القرآن لا يَعْرِفُ العاطفة ولا المحسوبيات كما ذكرنا ! وبقدر ما أَمَرَ الله بالعدل وحثَّ عليه، فقد حذر من الظلم أشدَّ التحذير، وحَرَّمَه تحريما قاطعا، بل حرمه حتى على نفسه سبحانه، كما ورد في الحديث القدسي: "يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْـمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا" رواه مسلم من حديث أبي ذر .
فالظلم في الإسلام حرام شديد الحرمة، سواء منه ظُلْـم النفس وظُلْـم الآخرين، وقد شدد الإسلام خاصة من ظُلْـم الأقوياء للضعفاء، وظُلْـم الأغنياء للفقراء، وظُلْـم الحُكَّام للمحكومين، وكلَّما اشتدَّ ضعف الإنسان كان ظلمه أشدَّ إثما؛ وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الظلم مبينا أن دعوة المظلوم لا ترد، فقال: ".. وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْـمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ" متفق عليه . وقال صلى الله عليه وسلم : "ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ الْعَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْـمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللهُ فَوْقَ الْغَمَامِ، وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ" أخرجه الترمذي ، كتاب الدعوات.
7 تأسيس الشورى ونبذ الاستبداد : يؤسس لقرآن الكريم لعقلانية الشورى ونبذ الاستبداد من خلال عرضه لصورتين متقابلتين يقتبسهما من التاريخ :
الصورة الأولى : يعرض فيها القرآن الكريم حكاية الطاغية "فرعون" الذي عندما جاءه نبي الله موسى عليه السلام يدعوه إلى الإيمان، دعا فرعون مستشاريه وبدأ يحاورهم في دعوة موسى، ويحشد الآراء لقتله، لكن الطاغية يفاجأ برأي راجح يخالف رأيه، يقول : (... أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ۖ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ۖ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) سورة غافر 28 . ويبدو أن هذا الرأي الحكيم قد وجد صدى بين المستشارين ما جعل الطاغية يخرج عن طوره فيصرخ في المستشارين بغضب وجبروت : (... مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) سورةغافر 29 . وكما هي حال كل مستبد كان مصير فرعون ومن سار على دربه الدمار وسوء المصير : (... وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) سورة غافر 45- 46 .· الصورة المقابلة : يعرض فيها القرآن الكريم حكاية ناصعة للشورى ممثلة بحكمة "بلقيس" ملكة سبأ التي جاءها كتاب نبي الله سليمان عليه السلام يدعوها إلى الإيمان، فجمعت عقلاء قومها تستشيرهم في الأمر ففوضوها بالأمر تفويضاً تاماً (قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) سورة النمل 33 ، لكنها لم تستبد بالأمر كما فعل فرعون، بل ( قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ) سورة النمل 32 . وبهذه الحكمة وهذه الشورى، جنبت الملكة شعبها من حرب طاحنة ومصير مجهول، على العكس مما فعل فرعون الطاغية الذي قاد شعبه إلى الدمار !
بهذه الصور الواقعية المستقاة من التاريخ يؤسس القرآن الكريم للعقلانية السياسية، مقدماً بهذه الطريقة تطبيقاً عملياً للمنهج الذي أسسه في آيات كثيرة، منها قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ ... الآية) سورة الروم 42 . فالقرآن الكريم لا يكتفي بالتنظير كما يفعل الفلاسفة والمنظرين السياسيين، وإنما يعتمد تجارب الأمم، فيعمم النافع منها ويدعو إليه، ويحذر من الضار؛ وهذا المنهج التاريخي المحكم الذي يعتمده القرآن الكريم يعد من الملامح البارزة في العقلانية التي يؤسسها؛ ليس في السياسة وحدها ، وإنما في كل الشؤون !
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وسوم: العدد 735