نحن نعيش الزمن الذي رفعت فيه الأمانة كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
للأمانة شأن عظيم في دين الإسلام الذي يعتبر الانتماء إليه أعظم وأخطر أمانة يتقلدها الإنسان المسلم . والأمانة مشتقة من الأمن ، وهي كل ما يحفظه الإنسان عند غيره ويأمنه عليه احترازا من ضياعه ، والأمين هو من يستأمن على الأمانة فيحفظها. والأمانة في الإسلام على نوعين : أمانة بين الخلق والخالق ، وأمانة بين المخلوقات . أما النوع الأول فهو كل ما يترتب عن الإيمان بالله عز وجل والانخراط في الإسلام من واجبات يوجبها الإيمان والإسلام على صاحبه لأن الله تعالى يستأمن المؤمن المسلم على هذا الإيمان والإسلام وما يترتب عنهما . ويمكن القول أن العبادات أمانة بين الإنسان وربه بينما المعاملات أمانة بين الناس فيما بينهم . وبين الأمانتين علاقة تأثير وتأثر، ذلك أن كل منهما تؤثر في الأخرى ويؤكد ذلك قول الله عز وجل الذي جمع بين الأمانتين في سياق واحد : (( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون )) وواضح أن هذا القول يشير إلى أمانة الدين الذي هو عبادات ومعاملات . ولقد حذر الله عز وجل من خيانة الأمانة سواء تعلق الأمر بأمانة العبادات أم بأمانة المعاملات . والخيانة أو الخون عبارة عن نقض أو إبطال ما يكون بين المستأمن ـ بكسر الهمزة ـ والمستأمن ـ بفتح الهمزة ـ مع إخفاء أو إبطان هذا النقض . والخيانة نقيض الوفاء ، وأصل معنى الوفاء التمام بينما أصل معنى الخيانة النقص كما ذكر الزمخشري . والإنسان إذا خان الأمانة فإنه ينقص منها ، بينما إذا وفى يتممها ولا ينقصها . وخيانة الله عز وجل ورسوله هي عدم الوفاء بما ينص عليه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من عبادات ومعاملات. وليس من قبيل الصدفة أن يحذر الله عز وجل أولا من خيانته وخيانة رسوله ثم يحذر بعد ذلك من خيانة المؤمنين بعضهم بعضا ، ويفهم من هذا أن من يخون المؤمنين يكون خائنا لله عز وجل ورسوله لأن المعاملات فيما بينهم إنما حددها الله عز وجل ورسوله في القرآن والسنة . ومن يخون الله عز وجل ورسوله ويضيع أمانتهما يكون لأمانات المؤمنين أضيع . ومن تجرأ على الخالق سبحانه يكون أشد جرأة على المخلوق .
ومباشرة بعد تحذير الله عز وجل من خيانته وخيانة رسوله وخيانة المؤمنين يعقب بالقول : (( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتة وأن الله عنده أجر عظيم )) وهذا التعقيب يدل على أن حب الأموال والأولاد من أسباب الوقوع في الخيانة لأن الإنسان بطبعه يحب المال حبا جما ويحب جمعه في حياته وبعد مماته إذ يرغب في أن يخلفه تركة لأبنائه . ويذكر المفسرون أن سبب نزول هذه الآية ما كان من الصحابي أبو لبابة الذي طلب يهود بني قريظة وساطته حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يحاصرهم ، وكان لأبي لبابة مال وولد وعيال عندهم ، فحمله حرصه علي ماله وولده على الإشارة عليهم بما لم يأذن به النبي صلى الله عليه وسلم . والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يقول أهل العلم، لهذا يدخل تحت حكم هذه الآية كل من حمله حرصه على مال أو ولد على خيانة الأمانة . والمال والولد مما يفتن به الإنسان لضعفه أمام حبهما والتعلق بهما والحرص عليهما ، وما كان سببا في الفتنة ، فهو فتنة .
وكما حذر الله عز وجل من خيانة الأمانة حذر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا ،وأخبر بأن الأمانة بعده سترفع كما أخبر الصحابي حذيفة بين اليمان رضي الله عنه والذي قال : (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين ، رأيت الأول ،وأنا أنتظر الآخر ، حدثنا : "أن الأمانة نزلت على جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة "، وحدثنا عن رفعها فقال : " ينام الرجل النومة فتقبض من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء ،ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال إن في بني فلان رجلا أمينا ، ويقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان " ولقد أتى عليّ زمان وما أبالي أيكم بايعت ، لئن كان مسلما ليردنه عليّ دينه ، ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه عليّ ساعيه ، وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا فلانا ).
لقد حدث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بحديثين لرسول الله صلى الله عليه وسلم الأول أخبر فيه عن نزول الأمانة على جذر قلوب الرجال، والجذر أصل الشيء ، وهذا الذي حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رآه حذيفة وعاينه عند الصحابة زمن النبوة ، والثاني أخبر فيه عن زوال الأمانة من القلوب حتى أنه لا يبقى منها في القلوب إلا الوكت وهو الأثر القليل أو المجل وهو انتفاخ الجلد حين تصيبه النار فينفط وينتبر وليس فيه إلا ماء أو صديد ، ويحصل ذلك بالغفلة التي عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنومة، ذلك أن الغافل في حكم النائم ثم بيّن عليه السلام كيف يكون ذلك حيث يتبايع الناس ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، ولقلة الأمناء يقول الناس يومئذ إن في بني فلان رجلا أمينا ، وفي هذا الزمان يمدح الرجل بالعقل والظرف والجلد، وليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان . ويعقب حذيفة بن اليمان على حديث رفع الأمانة بالقول أنه كان زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبالي بمن بايع من الصحابة لأن الوازع الديني كان يحكمهم ويضبطهم ولا يخامر أحدا الشك في حفظهم للأمانة ، وحتى النصارى واليهود يومئذ كان الولاة يسهرون على إلزامهم بالوفاء بالأمانة ، وذلك وثوقا بالناس زمن النبوة إلا أنه أتى على حذيفة زمن آخر وقد مات رضي الله عنه سنة 36 للهجرة وأدرك مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو زمن رفعت فيه الأمانة، فصار لا يبايع إلا القلة من الناس ممن يثق في أمانتهم .
ولئن كان رفع الأمانة قد بدأ في زمن شهده الصحابي الجليل حذيفة بين اليمان رضي الله عنه وهو زمن خير القرون والذي يليه، فما هو يا ترى حال الأمانة في زماننا هذا وقد مر على زمن النبوة خمسة عشر قرنا ؟ وإذا لم يكن زماننا هذا هو الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأي زمان يكون يا ترى ؟ أليس جذر القلوب في زماننا قد صار خلوا من الأمانة ، ولم يبق فيه منها إلا الوكت والمجل، ولا شيء بعد ؟ ألسنا نتبايع ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة لأن خيانة الأمانة في زماننا بدأت بخيانة الله عز وجل ورسوله، وذلك بمخالفة الكتاب والسنة ونبذهما وراء الظهور مع أنه بهما ترسخ الأمانة في جذر القلوب كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ألسنا نقول إن في بني فلان رجلا أمينا حين نسأل عن الأمناء حكام ، ودعاة ،وعلماء، ومفكرين، وساسة ،وأطباء، ومهندسين ،ومعلمين ،وموظفين، وجنود، وفلاحين، وتجار، وحرفيين ...؟ فيقال لنا يوجد من هؤلاء أمناء في المكان الفلاني وهم قلة أقل من العدد الذي كان يبايعهم حذيفة بن اليمان حين بدأ رفع الأمانة من الأمة . ولقد فقدت الثقة في الحكام وفيهم من يمدح بالعدل والكفاءة والاستحقاق وليس في قلوبهم مثقال حبة خردل من إيمان. وفقدت الثقة في العلماء والدعاة وفيهم من يمدح برجاحة العقل وظرف المعشر ، و الجلد أو الصبر والاستماتة في قول الحق والنصح وليس في قلوبهم مثقال حبة خردل من إيمان، وقد سقطت أقنعتهم وصاروا يتملقون الطغاة من الحكام ويطاوعونهم في جورهم ويفتون بأهوائهم إرضاء لهم وانحرافا عن الحق . وفقدت الثقة من كل الأصناف التي أشرنا إليها حتى صار الواحد منا يبحث عن أمناء يطمئن إليهم إذا مرض والتمس الطبيب الأمين ، أو احتاج إلى بضاعة والتمس التاجر الأمين ، أو أراد تعليم أبنائه والتمس المعلم الأمين ، أو أراد إصلاح مركب أو متاع فالتمس المصلح الأمين ، أو أراد بناء مسكنه فالتمس المهندس والبناء الأمين ، أو أراد رفع مظلمة فالتمس القاضي الأمين ، أو أراد بث شكواه فالتمس المسؤول الأمين ، أو أراد الحرية والكرامة فالتمس الجندي الأمين الذي يصون كرامته وحريته ولا يكون أداة قمع في يد الطغاة ، أو أراد معرفة الحقيقة فالتمس الإعلامي الأمين الذي يصدقه الخبر ... فكل هؤلاء فتنوا بالأموال والأولاد فخانوا الأمانة فرفعت من الأمة ،ولم يبق من الأمناء إلا قلة يشار إليهم هنا وهناك ويحسبون برؤوس أصابع اليد الواحدة ، وصارت الأمانة عندنا مع شديد الأسف سذاجة وغفلة وتخلفا يستخف بأصحابها ، والخيانة شطارة وذكاء وتطورا يمدح أصحابها ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .فهل من أمل في استرجاع جذر القلوب الأمانة المرفوعة ؟ اللهم أعد إلينا أمانة رفعت بسبب خيانتنا فأنت أملنا الوحيد في استعادتها .
وسوم: العدد 741