حرّيّة الإنسان محنة واختبار !

على ماذا يحيل قلق الإنسان الحر ؟ هل يعني غيابَ الإله ؟ أم أن هناك شيئا آخر ؟

إذا كان غياب الإله أو حضورُه ظاهرةً يمكن تفسيرها بالرجوع إلى تمثل الفرد الذاتي لفكرة الله، أو التصور العلمي لهذه الفكرة أو الوجود الموضوعي لها، فإنّ أثرها يظل بالتأكيد فاعلا وإيجابيا عندما نحاول الإجابة عن سؤال قلق الإنسان الحرّ.

وهذا ما نستشفّه في كتابات سارتر عن الحرية الإنسانية في فلسفته الوجودية، وبالضبط من خلال مؤلَّفه الذي يحمل عنوان «الكينونة والعدم». ينطلق التفكير الفلسفي هنا من فكرة عامة وجوهرية تقول إن قلق الإنسان الحرّ هو دليل على محنة. أو بالأحرى على امتحان هو امتحان الحرية. وهذا القلق هو الذي وراء سؤال الهوية الإنسانية أي سؤال الذات عن نفسها التي تقف مرتبكة ومهمومة أمام استفهام وجودي: «من أكون ؟ «من أنا ؟». والجواب مرتبط بـ«فينومينولوجية» القلق نفسه لكن على شكل سؤال حول الحرية الإنسان ية: أنا قلق من كل الإمكانيات المفتوحة في وجهي لأني، مهما قلت وفكّرت، يلزمني أن أختار.

بتعبير آخر، قلقُ الإنسان الحر تعبيرٌ عن اضطرابه وبلبلته، وبالتالي عن تردّده، أمام ما تتيحه الحــــــرية من إمكانيات واحتــــمالات رهينة بالعديد من الشروط (الزمان والمكان والمعرفة والأداة والإرادة..). لكنها تبقى مفتوحة على اللامتناهي والمتغيِّر أو المتطوِّر كما الحياة. والحياة الحقيقية ـ حسب سارتر- لا توجد خارجنا، في محيط حولنا أو في فضاء بعيد عن ذواتنا. 

إنها كائنة أساساً في الوعي، في وعي الإنسان بوجوده. ووعيُه بنفسه يتحقق من خلال وعيه بعلاقته بالآخرين.

وهذا الوعي بالذات وبالآخر يجعل من الحياة الحقّة ظاهرة مستقرّة في الحرية التي نرثها بمجرّد مجيئنا إلى العالم.

الحرية إرث الحياة. لكن ما العمل حتى نستطيع أن نكون أحراراً ؟ أساس العمل الضروري لكل نهضة حضارية جديرة بهذا المعنى، مشروط بطبيعة النظرية العلمية أو المشروع السياسي أو الأساس الفلسفي الذي يسبقه ويهيّئ له.

يعتقد سارتر بأن «الإنسان مجبر على أن يكون حرّاً». الجملة تنطوي ظاهريا على تناقض بين عنصر «الإجبار» وعنصر «الحرية». لكن هذا التناقض سطحي والعلاقة بين مفهوميْ الإجبار والحرية لها ما يبرّرها في منطق فلسفة الحياة : إنها علاقة ضرورية. كيف يمكن للإنسان أن يكون مجبراً على أن يكون حرّا ؟ 

لا يكتفي سارتر برؤية الإنسان ككائن قابل لأن يُنْعَت بصفة الحرية كما هو شأن الصفات الأخرى التي، عادة أو عامّة، ما تكون خارجية وعارضة وغير ملتحمة ولصيقة بذات الموصوف موضوعيا. 

إنّ سارتر، في تداركٍ منه لعبارة «الإنسان كائن حُرّ»، يذهب أبعد من ذلك ويقرّر أنه، انطلاقا من الفكرة الفلسفية القائلة بأن «الوجود يسبق الهوية»، فإنّ الإنسان أولا وقبل كلّ شيء حرّيّة وهو مجبر على أن يكون كذلك، لأنه لم يخلق نفسَه بنفسه بل جيء به إلى العالم ورُمِيَ به في جوف الحياة.

وهذا التصوّر للحرية الإنسانية يبدو وكأنه صدى أو امتداد للصرخة التاريخية الخالدة (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟) التي وجّهها الخليفةُ عمر بن الخطاب إلى والي مصر آنئذ، عمرو بن العاص، بعد أن اشتكى له مصري قبطي من مظلمة صدرت في حقه من طرف ابنه محمد بن عمرو.

ما يجب الوقوف عليه في موقف عمر بن الخطاب كخليفة للمسلمين هو أنه عبّر، وما زال يعبّر – وهذا بيت القصيد لأن الأمر يتعلق بنصّ، والنصوص مؤسّْسة وموجِّهة لأنواع القراءة التي يحتاجها المسلم اليوم في معالجة مشاكل حياته العامة والخاصة- عن رفضه لكل سلوك يهدف إلى سلب الإنسان حريّته باستعمال القوة أو استغلال السلطة. 

وفي هذا دلالة تاريخـــــية قاطعــــة على أنّ حماية حرية الإنسان في الإسلام يجب أن تشكل التحدّي الرئيسي الذي يواجه كلّ من بيده السلطة، أكانت سياسية أم دينية، في العالم العربي والإسلامي.

وسوم: العدد 746