مراجعات(5) النخب السورية و تشابك المكوّنات (الجذور و العلاقات)
مقدمة:
لم تعرف سورية الدولة الوطنية المستقلة ذات السيادة – بحدودها المعروفة – عبر تاريخها الطويل! فهي بعد الإسلام أصبحت جزءا من الدولة الإسلامية. التي تعاقب على الحكم فيها: العرب، و الترك، و الكرد، و المماليك. و هم من أمم شتى. و قد عرفت منذ القديم التباين العرقي، الذي قذفته إليها الموجات البشرية القادمة من وراء الحدود. و على أساس منه: تكونت مكوناتها الاجتماعية فأنست بذلك و قرّت. و لم تعرف الاضطرابات الداخلية كالذي يحدث اليوم، ولا مرت بها في تاريخها كله. أما التباين المذهبي فهو الذي قذفه إليها الغلاة. و الذي نجد مثله الصارح في شخصية ابن العلقمي، و من لف لفه من المغضوب عليهم.
وكان الذي حدث – و هو حقيقة واقعة - أن أصبحت سورية مع مطلع القرن العشرين فريسة القوى الإقليمية و الدولية، التي كل منها يريد أن يحقق مكاسبه على حسابها، و جراء ذلك شهدت أهم ظاهرتين في تاريخها الحديث.
الظاهرة الأولى – دولية: وقد ولدت من رحم معاناة الدولة العثمانية مع أعدائها التقليديين من التحالف الدولي، فكانت موضع التآمر الغربي، الذي يصب جميعه في خانة العداء ضد الدولة العثمانية.
و كان رد العثمانيين – يومئذ – بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية، و إعلان الجهاد المقدس. و معنى ذلك تثوير المسلمين من الهند و باكستان إلى المنطقة المتوسطية، و هي مسألة من شأنها أن تثير الرعب بين الحلفاء، الذين كانوا قد جربوا خطهم مع هذه الظاهرة في العصور الوسطى؛ في أثناء الحروب الصليبية عندما كانت المعارك على أوجها بين الصليبيين و المسلمين.
و كان رد الحلفاء باستهداف الداخل العثماني و تفكيكه، و إثارة النعرات الداخلية فيه، و كانت الأقليات العرقية و المذهبية موضع اختيارهم. و مع هذه الظاهرة كانت الحرب سجالا بينهم و بين الدولة العثمانية، و لم تتوقف إلا بعد الحرب العالمية الأولى سنة 1918م. و التي انتهت بسقوط الدولة العثمانية.
الظاهرة الثانية – إقليمية: و تعد المنطقة الشرق أوسطية المستهدف الأول في ذلك. و منها: سورية. وقد كانت بلاد الشام – يومئذ – بمثابة بيضة القبان في هذه المسألة، فكانت عرضة لتآمر عريض أفسد عليها حياتها العامة و الخاصة، وقد وجدت القوى المحلية ضالتها في الأقليات فحاولت ركوب مركبها، أو الاصطفاف إلى جانبها، أو تحريضها. و هذا هو الذي حدث منذ مطلع القرن العشرين، و لاتزال التدخلات الإقليمية مستمرة إلى اليوم و لم تتوقف!!
النخب المثقفة و تشابك المكوّنات:
مثلما قالوا: إن أسباب الحروب الصليبية دينية، و إنها جاءت تلبية لدعوة الراهب بطرس مع نهاية القرن الخامس الهجري، لتخليص قبر المسيح في فلسطين من أيدي المسلمين، ثم تحولت إلى سياسية و عسكرية، فكذلك الحرب الصهيونية الصليبية - التي شنت على العالم الإسلامي حديثا، تحت غطاء مايسمى في حينه بـ(الاستعمار) - فإن أسبابها دينية. ثم تحوّل المعلن منها إلى سياسية و عسكرية!! و كانت بداياتها الجادة و العملية مع نهاية القرن العشرين. حيث تم عقد القران بين القوى الصهيوينة و الصليبية التي جمعتها مصالحها المشتركة ضد المسلمين بعامة. و قد تمثل ذلك بأهم حدثين:
الحدث الأول – المؤتمر الصهيوني الأول:الذي عقد من أجل نصرة القضية الصهيوينة في مدينة بازل في سويسرا، و هدفه إقامة الدولة اليهودية في فلسطين. و كان هرتزل قد قدم في حينها ورقة عمل إلى المؤتمرين، رأى فيها: "ضرورة أن تخضع منطقة الشرق الأوسط لتقسيمات على أساس عرفي و مذهبي؛ تكون السيادة فيها للدولة الصهيونية". و هذه الورقة؛ وقد كان الحلفاء على أبواب الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وجدت لدنهم آذانا صاغية وقد وجدوا في اليهود حليفهم الأكبر ضد العالم الإسلامي إذ أن الحلفاء سرعان ماتلقفوها و عملوا من أجلها.
الحدث الثاني – اتفاقية سايكس بيكو: لقد عقدت اتفاقية سايكس بيكو بين وزيري خارجية بريطانيا و فرنسا، وقد نصت يومئذ على تقسيم بلاد الشام و العراق إلى:
1- منطقة زرقاء: تمتد على الساحل السوري من شمالي فلسطين إلى حدود تركية. و تخضع لإدارة فرنسا.
2- منطقة حمراء: تمتد من الخليج العربي بحذاء حدود إيران إلى شمالي بغداد، و تخضع لإدارة بريطانيا.
3- منطقة سوداء: تشمل فلسطين، و قد تقرر أن تخضع لنظام دولي. و إن كانت وضعت تحت الانتداب البريطاني.
4- مابين المنطقتين – الزرقاء و الحمراء، تقام دولة عربية بإشراف فرنسي و بريطاني.
لقد حدث ذلك قبل الحرب العالمية الأولى و في أثنائها. و كانت عقارب الساعة عند الحلفاء، تشير إلى بداية حرب معلنة على المسلمين، و ليس إلى نهايتها!!
فمشروع الدولة الصهيونية، الذي طرح في بازل، لاقى تأييدا واسعا، و قد تبنته الدوائر الغربية بعامة. و لايزال دعمه و تأييده مستمرا.
و مشروع تجزئة بلاد الشام و العراق، الذي نصت عليه اتفاقية سايكس بيكو، لاقى قبولا و تأييدا، وقد تمت التجزئة في كلا البلدين، و لاتزال تعمل من أجل تجزئة المجزأ!!
بل الذي حدث: أن وضعت ورقة هرتزل موضع التطبيق، وقد جاءت اتفاقية سايكس بيكو، و كأنها بعض منها، ثم تولد من ذلك مشروع التجزئة بعامة، الذي يوضع اليوم موضع التطبيق في سورية. و ذلك كله يأتي تأييدا لسياسات غربية، و بخطط لتلك السياسات أعدت مسبقا؛ و ليست عفوية أو نتيجة لحدث معين.
المكونات و علاقاتها التاريخية.
كان الجنس العربي قد شكل أكثرية في بلاد الشام منذ مرحلة ماقبل الإسلام . وبعد الفتح مباشرة أصبح الجنس العربي المسلم يشكل الأغلبية. ثم لم يلبث بسبب من الأحداث – الداخلية و الخارجية – التي تعرضت لها بلدان العالم الإسلامي بعامة، أن حدثت تغييرات ديمواغرافية أثرت على بنية السكان، و جعلتها أكثر تنوعا. و هذه التغييرات تمثلت بنوعين منها:
أولا – التغييرات العرقية: التي حدثت بسبب الموجات البشرية التي قدمت إلى المنطقة في أعصار مختلفة، ثم كانت سببا في وجود المكونات العرقية، التي منها: العرب و الترك و الكرد الذين كانت لهم أدوار مشرفة في تاريخ المسلمين.
ثانيا – التغييرات المذهبية التي حدثت بعد الفتنة و مقتل عثمان و بعد معركتي الجمل و صفين، و ظهور الخوارج وبعد مقتل علي كرم الله وجهه، و استشهاد الحسين – عليه السلام – على أرض كربلاء، وهذه الأحداث مجتمعة أدت إلى انشعاب صف المسلمين و إلى ظهور الغلاة الروافض، و هم أكثر من فرقة أو مذهب الأمر الذي أدى بعد: إلى طهور المكونات المذهبية. و بعض هذه المكونات و هي مسألة أكثر من ملحوظة في سورية بخاصة!! - لم تستطع الانسجام مع التركيبة السكانية، و بالتالي شكلت نقطة عطالة في جدار العلاقات الاجتماعية، بسبب من سلوكياتها الخاطئة، الأمر الذي حدا بإمام كأحمد بن تيمية و هو من المجتهدين؛ أن يصدر فتوى بعدم قبول توبتهم بعد أن ثبت و بالدليل القاطع أنهم كانوا يتعاونون مع الأجنبي ضد شعبهم.
المكونات و علاقاتها بالسياسة الأجنبية:
كانت بعض الأقليات و منذ القديم قد وقع عليها خيار الأجنبي، في حربه المعلنة ضد العالم الإسلامي، و منها الحروب الصليبية، وقد وجدوا في خلافات إيران الشيعية مع الدولة العثمانية خير حليف لهم. فعقدوا تحالفاتهم مع شاه عباس الأول، و من بعده مع الشاه إسماعيل الصفوي، و بسبب من تلك العلاقات، التي كانت موضع اعتبار الدول الغربية، فقد عملت تلك الدول على بعثها و توظيفها، في إطار الجهود المبذولة من أجل القضاء على الدولة العثمانية. و قد ظلت على هذه الحال موضع أخذ ورد طوال المرحلة الأخيرة من العهد العثماني، وقد عملوا على توظيفها بشكل مباشر أو غير مباشر في دائرة التآمر على الدولة العثمانية قصد إسقاطها. وقد نجح التحالف الغربي في إسقاط هذه الدولة، فكانت مرحلة السقوط بداية لبعث الأقليات و لبناء قواها الذاتية التي تمكنت من استلام الحكم في الكيانات المحدثة، بعد انهيار الدولة العثمانية. و كانت سورية هي الدولة الأولى و الوحيدة التي نفذت فيها تلك السياسات بدقة، وقد أنجزت فقرة فقرة و حسب جداول زمنية معدة مسبقا.
غورو و سياسة تقسيم سورية:
كانت سياسة غورو قد رأت أولا ضرورة تقسيم سورية إلى دويلات على أساس عرفي و مذهبي، وذلك تنفيذا لما جاء في ورقة هرتزل. لكن ذلك لم يتحقق عمليا على الأرض السورية فلجأ إلى المشروع البديل، الذي يتسم بالنفس الطويل، فأحدث قوات المشرق الخاصة، التي تقدم الأقلية على الأكثرية، حيث أدى الأمر بعد اثنتين عشرين سنة إلى استقلال سورية و إلى تحويل ذلك الجيش - الذي يعتمد الأقليات مكونا رئيسا - من جيش فرنسي مهمته تقوم على خدمة الفرنسيين إلى الجيش العربي السوري الذي أكثريته من الأقليات، و من الطائفة العلوية على وجه الخصوص. و هو الامر الذي أدى بعد سبعة عشر عاما إلى وصول تلاميذ غورو إلى الحكم، و إلى وضع حجر الأساس للدولة الطائفية التي ربطت مصيرها بالأجنبي، و بالأقليات بعامة. و هي مسألة كان لها ما بعدها، لاسيما بعد 8 آذار سنة1963م.
النخب المثقفة و تشابك المكونات:
كانت النخب المثقفة المكونة من العرب، و الترك، و الكرد و من المسلمين و المسيحيين، و من السنة و الشيعة، و من النصيريين و الدروز و الإسماعليين، قد أخذت تشهد تشابكا فيما بينها بسب عاملين اثنين:
العامل الأول - يتمثل بقديمها التاريخي، و ماهي عليه من خلافات أو هضم أو إقصاء. وقد اعتبرت سياسة حزب البعث التي اتبعت في النصف الثاني من القرن العشرين مشجعه على ذلك التشابك. و منها: سياسة الحزب الواحد، و كم الأفواه و تعطيل الحريات، و اعتماد المنهج الطائفي. و كل ذلك إذا أضيف إليه القديم – وقد كان داميا و صارخا – كان مبررا لذلك التشابك –
العامل الثاني – يتعلق بارتباطاتها بالاجنبي الذي وجد فيها ضالته المنشودة. فهضم الحقوق و إقصاء الآخر، و العدوان على الحريات، سيؤدي بديهه إلى القناعة بضرورة المواجهة، و القيام بالثورة، وهذا هو الذي حدث في سورية العربية، ذات الأكثرية المسلمة التي تقدر ب 80% وذات الأغلبية العربية، التي تزيد نسبتها على الـ90% .
وهذان العاملان و هما حقيقيان قادا في النتيجة إلى شتات تلك النخب – وذلك تبعا لاختلاف مكوناتها – و إلى تباينها و تعددها الأمر الذي أدخلها في خانة (اللامنتمي) و من ثمَّ، و كنتيجة حتمية قادها إلى التشابك فيما بينها، وقد اختلفت مصالحها؛ فكانت التبعية، و كان الاقتتال، و كان التآمر، و كان العدوان المطلق على بعضها البعض. و حصاد ذلك كله كان السقوط الحضاري الذي كل مايقال عنه: أنه (إيدز الشعوب)، أو أنه (السوس) الذي ينخر في الخشب. و يقينا أنه ما حلّ في أمة إلا و تأذنها بالزوال؛ حتى ولو كانت من أرقى الأمم، و من أكثرها تقدما!!!
أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى
رئيس وحدة الدراسات السورية
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
وسوم: العدد 746