من لم يذق مرارة نقمة الاحتلال لا يمكن أن يعرف ويقدر قيمة نعمة الحرية والاستقلال
كثيرة هي النعم التي أنعم بها الله عز وجل على بني آدم حتى أنها تستعصي لكثرتها على العد والإحصاء كما قال الله عز وجل في محكم التنزيل : (( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها )) . ولما كانت النعم تستوجب الشكر ،وتقابل بالثناء والحمد ، فإن استعصاءها على الإحصاء والعد، يجعل شكرها أمرا مستحيلا لأن ما تعذرعده وإحصاؤه عسر شكره إذ لو أحصي وعد لأمكن مقابلة عده وإحصائه بما يناسبه من شكر وثناء . ولما كان الله عز وجل رحيما بالعباد جوادا كريما ، فإنه يقبل منهم الشكر القليل على العطاء الكثير حيث يعطيهم السعادة الأبدية في الآخرة مقابل سعي يسير محدود في الحياة الدنيا الزائلة . وهذا العطاء الكثير والدائم مقابل السعي اليسير المحدود هو في حد ذاته شكر من الله تعالى يقابل طاعة العباد ،وهو سبحانه الموصوف بالشكور . ولما كانت نعم الله عز وجل على الخلق متواصلة لا تنقطع ، فإن شكر العباد لها إنما يكون باستعمالها في طاعة خالقهم ، ولا يوجد أقبح ولا أشنع من الاستعانة بها على معصيته .
ومعلوم أن الله عز وجل المنعم على الخلق هو مصدر كل النعم مصداقا لقوله عز من قائل : (( وما بكم من نعمة فمن الله )) ، وفي هذا تذكير وتنبيه للخلق بأن النعم إنما هي من عنده سبحانه ، وهي لا تنفك عن الخلق أبدا. ومن رحمة الله عز وجل بالخلق أنه يقبل منهم الشكر على قدر وسعهم وطاقتهم ، وإلا لو طالبهم بشكر في مستوى ما ينعم به عليهم لعجزوا عن ذلك، وما طاقوه أبدا .وكل الشكر الذي طالبهم به سبحانه هو ألا يستعينوا بنعمه على معصيته ، فذلك إثم كبير، وقد أشار الله عز وجل مباشرة بعد ما ذكر أنه مصدر كل النعم إلى الذين يتنكرون لها بعد الاستفادة منها، فقال عز من قائل : (( ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم )) فبموجب هذا النص القرآني يعتبر كشف الضر عن الخلق من أعظم النعم لما في الضر من عنت ومشقة وما يسببه من معاناة . ومن جحود هذه النعمة أن يقع الخلق في المعصية بعد الظفر بها والخلاص من الضر، وقد كانوا وهم تحت وطأته يجأرون إلى خالقهم ليكشفه عنهم. وحين يشكر الخلق نعمة كشف الضر عنهم بالطاعة إنما يكون ذلك فضل نعمة عليهم ينعم بها عليهم خالقهم إذ لو لم ييسر لهم نعمة الشكر ما كانوا شاكرين.
ويتنوع الضر الذي يلحق الناس في هذه الحياة الدنيا ،ورب ضر يكون شرا من ضر حسب درجة معاناتهم منه ، وما يلاقونه منه من شدة وعنت . ومن الضر ما فيه مذلة وهوان كأن يتسلط على الناس عدوهم، فيسومهم الخسف . وقد ورد ذكر هذا الضر كثيرا في كتاب الله عز وجل حيث كان دأب الله عز وجل أن يكشف هذا النوع من الضر عن عباده المؤمنين نعمة منه عليهم . ومن آثار ضر تسلط العدو عليهم أن يمنعهم من عبادة الله عز وجل، ويخضعهم له كما كان شأن فرعون مع بني إسرائيل على سبيل الذكر لا الحصر .
ومعلوم أن غلبة العدو وقهره استعباد ومصادرة للحرية التي بها يحصل تكريم الإنسان. ولا يعرف قيمة الحرية في ظل العبودية لله إلا من صادر منه عدوه حريته واستعبده ، ومنعه من أن يكون عبدا عابدا لله ، وتكون عبديته أوعبوديته له دون سواه . وقد يحرم الإنسان في حياته من نعم كثيرة ، ولكنه إذا حرم نعمة الحرية، فإنه يشعر بحرمان لا مثيل له لأنه بفقد نعمة الحرية تضيع منه كل النعم المتعلقة بها والمترتبة عنها ، لهذا لا يقدر نعمة كشف ضر فقدان الحرية إلا من حرم منها .
ومما ابتليت به الأمة المغربية في القرن الماضي نقمة الاحتلال ، وهو ضر مسها فاستباح المحتل بيضتها ، وغزا أرضها ، وأذل شعبها بعد عزة ، واسترقهم بعد حرية ، واستباح خيراتهم ، وصادر أرضهم ،وجعلهم فيها أقنانا عنده يستخدمهم قهرا . وكان يهتك الأعراض ، وهي أعز ما يفخر به الناس، ويهلك الحرث والنسل ، ويعيث في الأرض فسادا ، ويغتصب الأموال ، ويفرض الضرائب على كل مغربي ، بل كان يفرض ضريبة على ما يستنشقونه من هواء وطنهم . وهل يوجد ذل أكبر من أن يؤدي الإنسان ضريبة على استنشاق هواء وطنه ؟ ولقد شق المحتل الطرق بسواعد المغاربة ، وأنشأ خطوط السكك الحديدية بعرق جبينهم، وهم مكرهون ليستغلها لنقل خيراتهم المسلوبة والمغتصبة إلى وطنه ليحقق بها رفاهيته على حساب حريتهم واستقلالهم . ولقد طوح بكثير من أبنائهم في حرب الهند الصينية في فيتنام بعيدا عن وطنهم ، وهي حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل بل كان حربا لسلب حرية الفيتناميين ، كما طوح بهم في حرب عالمية ضارية ،فقضى منهم من قضى ، وأصيب منهم من أصيب بعاهات كل ذلك تنكيلا بهم .وإمعانا في التكيل بهم منعهم من حرية العبادة ، وضيق عليهم فيها فحاصر مساجدهم ، ونكل بعلمائهم وأئمتهم وخطبائهم ودعاتهم ، وزج بهم في السجون والمعتقلات لأنهم كانوا يدعون للجهاد في سبيل الله ، كما كانوا وراء دعوة الشعب للثورة عليه حتى بلغ الأمر به حد اعتبار تلاوة اللطيف في بيوت الله جريمة فحاصرها وعاقب من اعتصم بها بل اعتبر تلاوة القرآن الكريم جريمة أيضا لأن فيه دعوة إلى الجهاد. ولم يقف عند هذا الحد بل حاول بث الفرقة بين أبناء هذا الوطن ،فأصدر ظهيره البربري المشئوم الذي كان يستهدف به الإسلام من خلال محاولة إقناع الأمازيغ بأن إخوانهم العرب جاءوا إلى المغرب محتلين ، وأن الإسلام دين دخيل حل محل دينهم البائد ، وأن لغة القرآن الكريم حلت منافسة للغتهم الأمازيغية .
وأمام كل هذه المؤامرات الخبيثة والماكرة، منّ الله عز وجل على الأمة المغربية بنعمة كشف ضر الاحتلال البغيض عنها بعدما جأرت إليه في بيوته ، فحلت نعمة الاستقلال بعد نقمة الاحتلال ، وكانت نعمة الحرية أعظم نعمة أنعم بها المنعم سبحانه على الأمة المغربية بعد عقود من الخضوع لمحتل كافر .
وقد لا يبالي ولا يحفل كثير من الناس عندنا بنعمة الاستقلال، بل قد تحل ذكراها دون أن تذكر مجرد ذكر عابر مع أن المطلوب منا كمسلمين أن نحدّث بما أنعم به علينا الله عز وجل من نعم ، وهو الذي أمر رسوله صلى الله عليه وسلم الذي جعله إسوة لنا بالتحدث بنعمه فقال في محكم التنزيل : (( وأما بنعمة ربك فحدث )) ، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحدث بنعم الله عز وجل فقال : " التحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر " . وحري بنا استجابة لأمر الله تعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن نحدث بنعمة الاستقلال ليس حين تحل ذكراها فقط ،بل في كل وقت وحين حتى نوفيّها ما تستحق من شكر ، وحتى لا نكون بها كافرين . وإذا كانت شريحة من هذا الشعب قد ولدت في نعمة الاستقلال ، ولم تذق مرارة الاحتلال ، فإنه بإمكانها أن تعرف قيمة هذه النعمة من خلال حرمان شعوب شقيقة مسلمة منها ، ونذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر الشعب الفلسطيني الذي لا زال محروما من نعمة الحرية والاستقلال . ومن لم يعش ويعاين فترة الاحتلال ، فله عبرة فيما يعانيه الأشقاء في فلسطين عجل الله استقلالهم ، وكشف ما بهم من ضر .
وإلى جانب شكر نعمة الحرية والاستقلال بالتحدث عنها ، لا بد من شكر من جعلهم الله عز وجل سببا في حصول هذه النعمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يشكر الله من لا يشكر الناس " وفي رواية أخرى : " من لم يشكر الناس لم يشكر الله " . والمستحقون للشكر والذكر هم الشهداء الذين استرخصوا أرواحهم ودماءهم وأموالهم في سبيل الله ومن أجل حرية واستقلال الوطن ، وهم أيضا أولئك المجاهدين الذين اعتقلوا وعذبوا من أجل حرية هذا الوطن . وكل من يستنكف عن التحدث عن جهادهم وتضحياتهم حين تحل مناسبة ذكرى الاستقلال أو يستثقل ذلك، يكون كمن داس على دماء الشهداء ، وعلى جهاد المجاهدين ومقاومة المقاومين ، وهي خيانة عظمى لله عز وجل ولرسوله ، وللأمة المغربية المسلمة .
ومن شكر نعمة الحرية والاستقلال الاستعانة بها على طاعة الله عز وجل ما دام شكر النعم المطلوب منا شرعا هو حسن الطاعة والعبادة . ولا يشكر نعمة الحرية من يستغلها ويستعين بها على معصية الله عز وجل . والذين ضحوا من أجل هذه النعمة لم يفعلوا ذلك ليستغلها من جاء بعدهم لمعصية الله ، فهؤلاء يصدق عليهم قول الله عز وجل : (( ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم )) وإن شرك الذين يستغلون كشف ضر الاحتلال للمجاهرة بالمعاصي إنما يعبدون أهواءهم وهم بها مشركون .
ومن كفران وجحود نعمة الحرية والاستقلال أن ترتفع أصوات البعض لتعيد مؤامرة المحتل المعروفة بالظهير البربري ، وتجاهر بالعداء للإسلام، وتعتبره احتلالا ، تعتبر لغة القرآن لغة غزو واحتلال . وترتفع أصوات أخرى لإحلال علمانية محتل الأمس لتحل محل الدين الإسلامي . وترتفع كذلك أصوات للنيل من رموز هذا الدين سنة ،وصحابة، وأئمة ،وعلماء، ودعاة، لهدم صرح هذا الدين ،وتشكيك أبناء الأمة المغربية المسلمة في قيمه السامية .
ومن كفران وجحود نعمة الحرية والاستقلال أيضا الحنين إلى نقمة وضر الاحتلال ، ذلك أن بعض السفهاء ممن فتحوا أعينهم على نعمة الحرية يتمنون لو دامت نقمة ومضرة الاحتلال ،لأنهم يفتقرون إلى الشعور بالكرامة والعزة ، ويفضلون الاستعباد على الحرية ، ويفضلون الخضوع لعدوهم رضى منهم بالمهانة عوض الخضوع لله رب العالمين، فهؤلاء لا يعرفون قيمة نعمة الحرية التي فتحوا أعينهم عليها ، ولم يبذلوا جهدا من أجل الحصول عليها.
ومن جحود وكفران نعمة الحرية أيضا خيانة هذا الوطن من خلال التقصير في الواجب نحوه . فكل من قصر في واجبه تجاه هذا الوطن يعتبر خائنا لله ولرسوله ولأمته ولوطنه . وكل من قصر في واجبه تجاه هذا الوطن ، أو استفاد من ريع لا يحق له، فهو إنما يدوس على دماء الشهداء ، وعلى جهاد المجاهدين ، وعلى جهود المخلصين في خدمة هذا الوطن . ومن العار أن يكون فينا مقصرون في حق هذا الوطن ، وقد استفادوا من نعمة الحرية ، وكان عليهم أن يقدموا من التضحيات ما يعدل تضحيات الشهداء والمجاهدين الذين ضحوا بأرواحهم ودمائهم وأموالهم ، ولن تبلغ تضحيات جيل الاستقلال مهما كانت مدّ ولا نصيف تضحيات الشهداء والمجاهدين من أجل حرية واستقلال الوطن .
وأخيرا ليفخر كل مغربي مخلص غيور بعيد الاستقلال ، وفخره إنما هو تحدث بنعمة الحرية ، وهو من شكرها كما ينص على ذلك ديننا الحنيف ، وكما أوصى بذلك سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام .
فاللهم لك الحمد على نعمة الحرية والاستقلال بكرة وأصيلا ،و في كل وقت وحين، وملء السماوات والأرض وما بينهما ، وملء ما شئت بعد وما يرضيك ، وما ترضى به عنا يا رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على أشرف المرسلين . ونسألك يا أرحم الراحمين أن ترحم شهدائنا الأبرار ، ومجاهدين الأخيار ، وتجازيهم عنا خير الجزاء ، وتجازي خيرا كل مخلص في خدمة هذا الوطن آمين والحمد لله رب العالمين .
وسوم: العدد 747