مراجعات(6) النخب السورية و سقوط القيمة

أ.د. عبد العزيز الحاج مصطفى

تعرّف القيم في عالم المعرفة حضاريا؛ بأنها المنظومة الأخلاقية، التي لها معاييرها الخاصة التي تمتاز بها و التي تعارف عليها الناس، عبر تاريخهم الطويل. و الخروج عليها يعد بمثابة الأزمة التي تتعرض لها الأمة، فتؤدي إلى خلخلة في البنى الاجتماعية، و إلى مشاكل كثيرة غير محسوبة، و أحيانا أخرى تؤدي إلى تدميرها!! يستوي في ذلك الناس كافة. و هي نتيجة حتمية لسلوكياتهم، التي أدت إلى ماحل بهم.

 و تتمايز المجتمعات الإنسانية من بعضها بأصالة تلك القيم، و بكونها الأصلح. و يكون الخلل عادة في الخصوصيات الناشئة، التي تميز المجتمعات بعضها من بعض. و يرادف الخصوصيات تنوع الثقافات و تعددها، و كذلك تعدد المفاهيم. و هذا بدوره يقود إلى تباين أفقي و عامودي في العلاقات العامة. و من ثمّ إلى الاختلاف؛ حيث تبرز المشكلة. و مع بروز المشكلة؛ تنشأ الأضرار التي تعرض الإنسان للخطر؛ كأن تهدر حقوقه، و تسلب حرياته، و يغدو عرضة لعدوان الآخرين عليه.

 و المجتمع السوري و هو واحد من المجتمعات الإنسانية؛ ليس بدعا في هذه المسألة، وقد كان قبل هذا التاريخ جزءا من منظومة أوسع، و من عالم أكبر. ثم مع نهاية الحرب العالمية الأولى، طالته فؤوس سايكس ، ووعود روتشيلد، و سياسة كامبل و اقتراحات هرتزل؛ فداهمه التغيير من كل جانب، ولم يكن يومئذ على بينة من أمره. فرتع في ذلك؛ من حيث يدري ولايدري؛ الأمر الذي أدى إلى سقوط القيمة عنده، و إلى خلل في منظومته الأخلاقية التي كان يمتاز بها من سواه. و هذا هو وجه المشكلة في سورية الحديثة، التي باتت تعاني من سقوط القيمة، أكثر مما تعانيه، من هجوم الأعداء عليها!!

 لقد كانت المنظومة الأخلاقية التي كان يمتلكها المجتمع السوري قبل الحرب الأولى إسلامية خالصة. و هي تتمثل بالقيم الإسلامية التي تنظم حياة الإنسان ، و تجعله في مأمن من عدوان الآخر عليه. فالدماء و الأعراض و الأموال مصونة، و الحدود قائمة، ولايتعداها إلا الجناة. و المسارعة إلى الخيرات، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و إقامة العدل و المساواة؛ ليس من المتعارف عليه حسب؛ و إنما هي أمور تعد من خصوصيات الأمة؛ و هذا ماجعلها مهابة، ولها سلطانها على الجميع، بالرغم من الجنايات أو الجنح التي وقع فيها بعضهم.

 كان هذا كما يقال أيام زمان. و أيام زمان قد ترجع إلى صدر الإسلام. وقد تمتد إلى العصور الوسيطة. فالمنظومة الأخلاقية كانت حاكمة. ولم يداخلها الخلل إلا مع بداية العصر الحديث وبروز المشكلة، في سورية الحديثة. حيث بات الخلل واضحا و مقروءا من قبل العامة و الخاصة!!

 فالمعروف أن أول كلمة نزلت من القرآن هي كلمة(إقرأ) و أن هذه الكلمة التي تعد الكلمة الأولى في الآية الأولى من سورية العلق قد تبعها في الآية الرابعة من السورة(الذي علّم بالقلم). و هنا إشارة واضحة إلى القراءة و الكتابة، وإلى أهمية ذلك في حياة الإنسان. وإذا كانت القراءة ينظر إليها أنها تمثل صلة الوصل بين القديم و الحديث، و على امتداد الزمان، فإن الكتابة تعد بمثابة الماعون الأوسع، الذي حفظ قديم الإنسان وحديثه، و منظومته الأخلاقية التي امتاز بها خلال تاريخه الطويل.

 و المعروف أيضا أن الذي أصاب العرب بعامة، في أقطارهم المختلفة، و منها سورية، مشكلات ثلاث.

 المشكلة الأولى – أنهم عادوا إلى أميّة؛ بعد أن كانوا من امة اقرأ. و الأمية سمة جاهلية، و كذلك سمة الأمم المتخلفة، التي تعد أدنى مستوى في التعلم. و العرب منذ العصور الوسيطة آل أمرهم إلى جاهلية، و إلى تخلف مقيت، وقد انشغلوا بثاراتهم وبعداواتهم، حتى بات الحديث عن جاهلية القرن العشرين من المسلم به في أوساطهم، وقد باتت خصائصها تشغل الجميع.

 المشكلة الثانية – أنهم غرقوا في الجهل و التخلف: وسبب الجهل و التخلف، انقطاعهم عن تاريخهم، و عدم إمكانية العودة إلى تراثهم، فتاهوا، بعد أن ضلوا و أضلوا. و على هذا كانت سلوكياتهم المتأخرة، و ماأغرقها في الجهل!! و ما أرتعها في الضلال!! و ما حلّ في سورية بعد 2011م، يقيم الدليل على ذلك.

 المشكلة الثالثة - وقوعهم في أسر السياسات الخاطئة – داخلية و خارجية – و ما أكثرها! وقد أصبحوا يخوضون المعارك الخاسرة الواحدة تلو الأخرى؛ دون أن يستطيعوا معرفة الأسباب التي أدت إلى خسارتهم، و غير متعظين من النتائج التي قد تترتب على تلك الخسائر!! و بسبب من ذلك أصبح المجتمع السوري واقعا في أسر مرحلتين مختلفتين، و إحداهما أشد ضراوة من الأخرى.

 أما المرحلة الأولى - فهي المرحلة التي مر بها المجتمع السوري مع مطلع القرن العشرين و مابعد: وتعرف هذه المرحلة بمرحلة الاستعمار، وقد امتدت من 1918م و إلى 1946م منه. وقد كان الذي حدث أن ماهم فيه من أمية و جهل و تخلف وبعد عن موروثهم التاريخي، قد أوقعهم في أسر سياسات غورو، التي كانت تخطط – و على المدى البعيد – من أجل شرذمة السوريين، و إشغالهم بمشاكلهم، و جعلهم غير قادرين على التخلص منها. و المعروف أن غورو و خلفاؤه من بعده، تبنوا السياسة الطائفية، و لم يخرجوا من سورية إلا بعد أن وضعوا في رجلها القيد الطائفي الغليظ، الممثل بقوات المشرق الخاصة التي تحولت بعد سنة 1946م، إلى الجيش العربي السوري.

 و أما المرحلة الثانية – فهي المرحلة التي مربها المجتمع السوري ابتداء من الاستقلال الذي يعود تاريخه إلى 17 نيسان 1946م و لاتزال قائمة. وهذه المرحلة مثلت – وعلى المدى البعيد – تحقيقا عمليا للسياسات المعدة مسبقا، و التي أدت و بشكل نهائي إلى انهيار البقية المتبقية من المنظومة الأخلاقية التي كانت عليها الأمة سابقا، و إلى السقوط الحضاري الذي كان بمثابة سقوط القيم ، في سورية كلها فأصبح المجتمع السوري يتحرك غريزيا، وقد عدم الدافع باتجاه ماهو أحسن، وذلك كله بسبب انقطاعه عن تراثه، وعن ماعونه الحضاري الذي كان يأخذ منه. و عن دينه و أخلاقه و قيمه الحضارية العامة و الخاصة. و مع ذلك؛ فلسقوط القيمة في سورية الحديثة أسباب ثلاثة:

 السبب الأول - يتعلق بالثقافة الوافدة: التي عبرت إلى البلاد في وقت سابق. و كان طليعتها المدارس التبشيرية، التي كانت أكثر انتشارا في سورية منها من أي بلد آخر، وقد لعبت دورا في تكوين النخب، وفي رسم قناعاتها. ثم تبعتها بعد ذلك البعثات التعليمية، التي كانت أكثر استيعابا للمفاهيم الغربية. و كثير منهم عادوا إلى البلاد، و هم مصابون بـ(الإيدز) الحضاري الذي يفتك بالشعوب أكثر مما تفتك بها الأوبئة الأخرى وقد كان لبعض تلاميذ مدارس التبشير و لبعض شخصيات البعثات العلمية أثرهما الأكبر في سقوط القيمة، و في تفكك المنظومة الأخلاقية التي عرفتها سورية في تاريخها الطويل، بل وفي تحويلها إلى سبة يقذف بها وجوه أصحابها. وقد مثّل ذلك أحد الشروخ العميقة في جدار العلاقات الاجتماعية السورية.

 السبب الثاني – يتعلق بالثقافة (اللقيطة): تلك التي تعود في مصادرها إلى الكتب الرخيصة، التي تنشر الإباحية و المجون، و التي تلتقط من المقاهي و الكازينوهات أو التي يقذفها الإعلام الموجه من الداخل و الخارج و الذي لايقيم وزنا لخلق أو دين؛ فكان ذلك بمثابة الشرخ الأكثر خطرا الذي زاد الشرخ الأول عمقا. و المعروف أن أصحاب الثقافات (اللقيطة)، من هذا النوع، كانوا أشد خطرا لأنهم كانوا – كما يتصورون هم يحملون في ذواتهم المهاد المعرفي، الذي يراد لسورية الحديثة أن تنشّأ على أساسه. فضلوا و أضلوا في هذه المسألة!!

 السبب الثالث – يتعلق بالجهل و التخلف بعامة: الذي كان موروثا عن الأمييّن من ناس ( جاهلية القرن العشرين )، وقد كانوا هم الأكثرية في البلاد، و كانت حياتهم معقدة جدا، وقد دبت إليهم أمراض الأمم السابقة. فكانوا مع الأيام يزدادون جهلا و تخلفا، و بالتالي قصورا عن إدراك طبيعة ماهم فيه من مشكلات، فمثلوا بذلك الجهة الأكثر سلبية، و الأكثر ضعفا.

 وعن هذه الأسباب مجتمعة نتجت أمراض اجتماعية قاتلة تأذت منها المكونات بعامة، و عانت منها النخب المثقفة، وقد أدى ذلك إلى النتائج التالية:

النتيجة الأولى – البعد عن الثوابت: الوطنية، و القومية، و الدنية. و عن الموروث الحضاري العام، الذي اكتسبته الأمة عبر تاريخها الطويل، إذ لم يدخل ذلك في دائرة المستفاد منه، أو مايمكن أن تؤخذ منه العبرة. و هو أمر يندرج جميعه في دائرة السقوط الحضاري الذي نعاني منه اليوم، و مثلنا في ذلك مثل التاجر الذي يتحرك في السوق بدون رصيد، أو المقاتل الذي يذهب إلى المعركة بدون ذخيرة، و هو أمر له مابعده. النتيجة الثانية – الوقوع في أسر الخصوصيات الناشئة التي أوجد بعضها الاستعمار، وأوجد بعضها الآخر الجهل و التخلف، الذي رتعت فيه الأمة منذ زمان. و من ذلك على سبيل المثال: المناطقية، و الطائفية، و الشخصانية و الفئوية و الحزبية. و المعروف أن هذه جميعا وصفت بالعقدة المستعصية على الحل، وقد جرت سورية كلها إلى مستنقع يصعب التعامل معه، حتى على النطاسي الحكيم. و ماجرى في سورية الحديثة و المعاصرة منذ مطلع القرن العشرين و إلى اليوم لايخرج عن دائرة ذلك؛ وهو الذي أفقدها خصوصيتها الوطنية المحضة، مما أسقط هيبتها عند الأعداء و الأصدقاء. النتيجة الثالثة – الذهاب إلى ماهو أبعد في الاختلاف: و هي مسألة قادت إلى الشقاوات و إلى التعنت حول الرأي و الرأي الآخر. و إلى التكلس في العلاقة. و إلى خروج النخب إلى الشوارع و هي مسلحة بالعصي و الجنازير. وقد أدى ذلك بعد إلى استخدام الدبابة، و الـ ب.ت.ر ، و الطائرة الحديثة، فسقطت القيمة في أتون ذلك، و كان من نتائجها الحتمية، القول: بقتل الآخر، و بهضمه حقوقه، و بالعدوان عليه؛ بل و التحالف ضده مع أعداء الأمة من - داخليين و خارجيين - وقيل ماقيل عن كل ذلك، فهي المشكلة التي تتطلب الحل؛ و طلب الحل و التوصل إليه، لايكون إلا بالارتقاء بالقيمة إلى ماهو أعلى، و عدم الاكتفاء باحتواء الماضي أو بالبكاء على أطلاله الحزينة.

أ.د. عبد العزيز الحاج مصطفى

رئيس وحدة الدراسات السورية

مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

وسوم: العدد 747