مراجعات(7) النخب السورية و السلكويات الخاطئة

أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى

(1946 – 1956)

         كانت السنوات العشر التي أعقبت الاستقلال مفجعة و مريرة، بالرغم من الفرحة التي عمّت البلاد بعد رحيل الفرنسيين، و بعد أن بدا علم الإستقلال يرفرف في السماء السورية. و سبب المرارة و الفجيعة أن السلوكيات الخاطئة التي صدرت عن النخب المثقفة يومئذ كانت مؤذية و ضارة.

        وقد تمثلت وقتها في قضيتين تعدان غاية في الأهمية:

          القضية الأولى _ تتمثل بإقامة الدولة الوطنية ذات السيادة. و المعروف أن الدولة الوطنية ذات السيادة، كانت حلم الوطنيين السوريين، الذين وجدوا أنفسهم محكومين بالأجنبي منذ العام1918م. و هذا التاريخ هو تاريخ دخول الفرنسيين سورية. و كل الثورات التي قامت في سورية منذ1918 و حتى1946م كانت من أجل الاستقلال، و من أجل إقامة الدولة المستقلة فيها. بيد أن الذي حصل بعد ذلك – وهو خطير جدا – أن انقلبت عليها القوات المسلحة التي رباها المحتل على عينه، فسنت فيها سنة الانقلابات التي كانت بمثابة الآفة التي فتكت في أديمها العام، أو الخطأ المسلكي، الذي قاد إلى خطأ أكبر، و الذي أدّى بعد إلى انهيار في جدار الوطنية السورية، التي فقدت هيبتها على أيدي العسكر، الذين أخذوا يصبحونها و يمسّونها بالانقلاب يتلو الانقلاب، و بالتمرد يتلو التمرد، و بالبيان رقم واحد الذي كان يشغل ذاكرة السوريين طوال تلك الفترة. و بالضبط الفترة من 1949 إلى 1954م.

       لقد وقع في تلك الحقبة خمسة انقلابات عسكرية و هي حسب تسلسلها الزمني:

1-  انقلاب حسني الزعيم في 30 آذار1949م.

2-  انقلاب سامي الحناوي في 14 آب 1949م.

3-  انقلاب العقيد أديب الشيشكلي الأول في 9 كانون الأول 1949م.

4-  انقلاب أديب الشيشكلي الثاني في الثاني من كانون الثاني1951م.

5-  انقلاب تجمع القوى الوطنية – كما وصف في حينه – وهو أشبه بالحركة المضادة؛ وقد جاء ردا على تصرفات الفرد. وقد وقع في 25 شباط1954م  وقد كان ذلك بعد رحيل العقيد أديب الشيشكلي و كان أكثر ضباطه من البعثيين.

     وهذه الانقلابات من حيث الواقع كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد جعلت من الدولة السورية ألعوبة بيد العسكر الذين استمرأوا الانقلابات، وبيد النخب المثقفة من الأحزاب السياسية، التي كان كل منها، يحاول أن يجعل منها أداة لتحقيق أهدافه، و التي بطروحاتها النظرية تخرج على القيم الوطنية، التي تختزن في ذاتها تاريخا حضاريا طويلا ، يشكل الأرضية الصلبة للحكم الوطني، الذي يعدّ بمثابة الثوابت التي لايجوز الخروج عليها. لكن العسكر الذين تربوا تربية خاصة يوم كانوا جنودا محترفين في قوات المشرق الخاصة، و الذين لقنوا قيمهم من الفرنسيين، كان عليهم قبل أن يصبحوا جنودا سوريين أن يغسلوا أيديهم و أفكارهم سبع مرات بماء بردى، على أن تكون إحداها بالتراب الوطني، وذلك لتطهر مما علق بها من درن، و كانت تلك الطهارة يجب أن تكون بمثابة المقدمة الأولى لارتداء البزة العسكرية السورية، التي يعتبر ارتداؤها الرمز الذي يشرف به صاحبه. كما كان عليها أن تخضع لإعادة تأهيل، جديدة تبدأ بفاتحة الخدمة و تنتهي بنهايتها و هذا الذي لم يحصل!!

     وقبل ماقبل عن أسباب تلك الانقلابات و عن دوافعها الرئيسة فهي تنحصر في ثلاثة أسباب:

       السبب الأول – يتعلق بالتدخلات الخارجية في السياسة السورية – وقد كانت وراء أكثر هذه الانقلابات – قصد زعزعة الأمن و الاستقرار في الدولة السورية الناشئة.

       السبب الثاني يتعلق بطبقة الأرستقراطيين، و منهم أصحاب الزعامة التقليدية و كبار التجار؛ الذين كان استقبالهم لغورو، و نثرهم الورود و الرياحين عليه، و جر عربته إلى داخل دمشق يدل على ذلك. وقد كانت هذه الفئة من الناس،هي المسؤولة من حيث الواقع عن السري و المعلن من اتفاقية الجلاء، و عن سياسة الحكومات السورية المتعاقبة. و نعتقد أن الاتفاق بين السياسيين السوريين و الفرنسيين في ذلك الوقت -  وهو أشبه مايكون بالحلقة المفقودة – هو الذي جعل الجيش يستمرأ الانقلابات و هو الذي قاد سورية إلى مكرور الانقلابات، و الذي أوصلها بعد إلى مجرور الطائفية!!!

        السبب الثالث يتعلق  بالمغامرة و حكم الفرد، و نزعة التسلط و شهوة الحكم، و قد كانت غالبة عند أكثر ضباط الجيش، و منها جاء القول:"سلموني الحكم يوما ثم اقتلوني". و هو مرض النخب المثقفة، و العسكريون بعض منهم!!

        وهذه الأسباب مجتمعة هي التي قادت إلى الانقلاب تلو الآخر، و هي التي كانت تحمل بشكل جنيني جرثومة العدوى، و منها انتقلت إلى المراحل اللاحقة، و أدت إلى أخطاء كثيرة، و منها إراقة الدماء و الفوضى. و الدخول في مشروع (إسقاط النظام) بالقوة المسلحة!!

       القضية الثانية - تتمثل بالسلامة الوطنية و الاجتماعية، و بالأمن  و الرخاء – اللذين كان يتطلع إليهما المواطنون السوريون بعامة: و مع أن السلامة الوطنية بمفهومها العام كانت شبه مقبولة سيما بعد أن تخلصت البلاد من الحكم الفرنسي. إلا أن انعكاسات القضية الفلسطينية على نفوس السوريين – و هم من الشعوب الحية الذين لايسترخصون قضاياهم الوطنية – أشعرهم جميعا بالغضب ،وقد أصبحت  قضية فلسطين – بعدها – ذريعة الإنقلابيين، الذين كان عليهم أن يتحدثوا عن مبررات انقلابهم أولا. أما القضية الاجتماعية على وجه التحديد فقد كانت مزدرعا واسعا لكثير من الأخطاء؛ التي ساهم فيها بشكل خفي أو معلن، عدد من الجهات الفاعلة على الساحة السورية. و منها:

الأحزاب الناشئة التي تكونت تكونا جنينيا خاطئا، و كانت متنابذة فيما بينها، و لا تختلف إلا من حيث الأيدلوجية و الثقافة الاجتماعية. و من هذه الأحزاب: الحزب القومي السوري الاجتماعي، الذي كان يتنكر للتاريخ الإسلامي بعامة و يربط تاريخه بتاريخ الآراميين و الفنيقيين، و كان قد أسسه أنطون سعادة في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي. و حزب البعث الذي كان يبتعد كثيرا في منطلقاته النظرية عن الجذور الإسلامية، و قد كان يتبنى منهجا انقلابيا في مواجهة الدولة السورية و كان أسسه ميشيل عفلق و صلاح البيطار في أوائل الأربعينيات. ثم انضم إليهما بعدئذ في الخمسينيات أكرم الحوراني ، ليصبح البعث بعدها حزب البعث العربي الإشتراكي. الزعامات التقليدية التي كانت مهيئة للظهور على الساحة السورية، وكانت ارتباطاتها الأجنبية تؤهلها للعب ذلك الدور، وهو دور اتصف منذ بدايته بالتآمر وعدم الاستقامة. المكونات السورية الناشطة التي أيقظها انتصار الحلفاء على الدولة العثمانية بعد الحرب الأولى، و أسال لعابها غورو و سياساته، سيما بعد تجزئة سورية إلى دويلات طائفية، وبعد قراره بإنشاء قوات المشرق الخاصة، ببنيتها الطائفية. و كانت مقبولة من المكونات غير  الإسلامية، وقد كانت أشد ظهورا في مرحلة الاستقلال.

     و هذه الأسباب مجتمعة؛ قادت إلى حمى الانقلابات و الاغتيالات، و التي راح ضحيتها في ذلك الوقت من العسكريين:

الزعيم حسني الزعيم  قائد الانقلاب الأول في 30 آذار1949م. الزعيم سامي الحناوي. قائد الانقلاب الثاني في 14 آب1949م. محسن البرازي رئيس وزراء سورية في فترة حكم الزعيم حسني الزعيم.

   كما راح ضحيتها ثلاثة من كبار الضباط المحسوبين على تلك المكونات. و هم على التسلسل:

المقدم محمد ناصر قائد سلاح الطيران. وقد اغتيل سنة1950م. محسوب على المكون(العلوي) العقيد عدنان المالكي. معاون رئيس الأركان. وقد اغتيل سنة 1955. محسوب على المكون(السني) المقدم غسان جديد. و كان من الناشطين في صفوف الحزب القومي السوري الاجتماعي. و كان الرأس المدبر لمقتل عدنان المالكي. وقد اغتيل سنة1957م. محسوب على المكون(العلوي)

      وقد اتسمت هذه الاغتيالات في حينها بضراوة المعركة بين المكونات السورية بخاصة و منهم(العلويون و السنة). و بتسرب ذلك إلى الجيش العربي السوري، الذي كان وضع على محك. فهو إما أن ينقي صفوفه من العملاء و الدخلاء و المتآمرين، و إما أنه سيبقى كل يوم عرضة لاغتيال جديد و لحركة انقلابية جديدة أو عصيان أو تمرد. وهذا ماكان ملحوظا بكثرة في ذلك الوقت.

     وقد كان من نتائج هذه السلوكيات الخاطئة:

  أولا – أنها شجعت روح المغامرة الاجتماعية و العسكرية و أوجدت مناخا ملائما لدى العسكريين و المدنيين الذين كانوا لايتورعون عن ذلك.

  ثانيا – أنها زادت من جفاء المكونات – بعضها لبعض – خلاف المعلن – و جعلت التآمر و على نطاق واسع، و في إطار لا أخلاقي و هابط جدا.

  ثالثا – سرّعت من وتائر التحركات السياسية، الأمر الذي أدى بعد إلى تطور جديد في قناعات النخب المثقفة التي كانت ترفض الأيدلوجيات الانقلابية، و تعمل من أجل مصلحة الأمة وتقدمها. و بعضهم كان، ذا توجهات ترقى إلى المستوى المقبول؛ إلا أن مرحلة مابين1946 – 1957 تمخضت عن:

الفوضى و عدم الانضباط. و هو الذي لاحت مظاهره أكثر بين العسكريين. بروز ظاهرة( اللامنتمي) في أوساط النخب السورية بعامة. القبول بالأمر الواقع، و هو أمر قاد بعد؛ إلى المسلكية الأكثر خطأ، و هي التي أدت بسورية إلى مراحل أكثر خطرا، من كل التي مرت بها في تاريخها الطويل.

    

   

أ.د.عبد العزيز الحاج مصطفى                    

رئيس وحدة الدراسات السورية                 

مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

وسوم: العدد 748