عفرين.. واللعبة الاستراتيجية في سوريا
قراءة مطولة حول عملية عفرين .. أسبابها وأبعادها الاستراتيجية ..
تكشف العملية العسكرية التركية في عفرين، التي أطلق عليها "غصن الزيتون"، خطوط اللعبة الاستراتيجية في سوريا، وسياقات التقاسم والتقسيم ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية خصوصا، والجهادية العالمية عموما.
إذ تدفع عملية عفرين كافة أطراف الصراع الدولي والإقليمي إلى تحديد مسارات أكثر وضوحا في تقاسم وتقسيم مناطق النفوذ والسيطرة، وتدشن نهجا واقعيا يتجاوز الطموحات الاستراتيجية الخيالية بالتفرد المطلق في تحديد مستقبل سوريا.
فعملية عفرين تأتي عقب تنامي الشكوك التركية بحليفيها المزعومين، الأمريكي والروسي، بعد الإعلان الأمريكي مع حلفائها الكرد عن تشكيل جيش حرس حدود بمكون أساسي كردي، وسيطرة روسيا مع حلفائها على مطار أبو الضهور وتقدمها في إدلب، حيث تبعث تركيا برسالة قوة مغلفة بالسلام لأطراف الصراع الأمريكي الروسي؛ تؤكد من خلالها قدرتها على خلق صعوبات إذا لم تؤخذ مصالحها الأمنية القومية بالحسبان.
تأتي عملية عفرين في سياق السياسة الدفاعية التركية للحفاظ على أمنها القومي؛ الذي أصبح مهددا بعد أن تكشفت النوايا الأمريكية بصورة أساسية والطموحات الروسية بصورة ثانوية، فعلى مدى سنوات الأزمة في سوريا لجمت الولايات المتحدة مطالب لأتراك بإنشاء منطقة عازلة.
فمنذ تشكيل التحالف الدولي في 14 أيلول/ سبتمبر 2014، قامت أمريكا بالتنسيق مع عدو تركيا اللدود المتمثل بقوات حماية الشعب الكردية، وساهمت بصورة متدرجة بخلق كيان كردي يهدد الأمن القومي التركي.
فعندما قررت الولايات المتحدة في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 إلغاء برامج تدريب المعارضة السورية، كانت قد حسمت خياراتها الاستراتيجية بالاعتماد على الأكراد كحلفاء أساسيين، من خلال الإعلان عن تشكيل "قوات سوريا الديموقراطية"، في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2015، والتي تجاوزت أهدافها التصدي لتنظيم الدولة الإسلامية، وتقدمت لتسيطر على سد تشرين، ولتحصل على معبر إلى غرب الفرات.
وعلى الرغم من الاحتجاجات التركية على مواقف الإدارة الإمريكية بخصوص الطموحات الكردية، إلا أنها لم تتخذ مواقف مؤيدة للمطالب التركية.
جاء قرار التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة؛ بإعلانه في 14 كانون الثاني/ يناير2018 أنه يعمل مع فصائل قوات "سوريا الديمقراطية" لتشكيل قوة حدودية قوامها 30 ألف فرد، وقد تصل أعدادها مع القوات شبه العسكرية إلى 70 ألف، ليؤكد على النهج الاستراتيجي الأمريكي بفرض تقسيم واقعي لسوريا، عبر خلق كيان كردي على غرار العراق، دون تحقيق استقلاله قانونيا؛ لإبقائه مرتهنا للقرار الأمريكي، وذلك في سياق مناهضة روسيا وإيران وتركيا تحت ذريعة عدم السماح بعودة تنظيم الدولة الإسلامية.
وقد أثارت الفكرة تركيا قبل الإعلان الرسمي لإنشائها، حيث استدعت وزارة الخارجية التركية القائم بأعمال السفارة الأمريكية في تركيا في العاشر من كانون الثاني/ يناير الماضي، مطالبة إياه بتوضيحات بشأن تلك القوة، ورافضة وجودها الذي سيضر بأمنها القومي.
وفي محاولة للتعمية وطمأنة تركيا، قال بيان التحالف: "إن هذه القوات ستنتشر على الطرف الشرقي لنهر الفرات الواقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وعلى الحدود الشرقية والشمالية لسوريا"، في إشارة لإخراج عفرين من المعادلة.
لكن قوة حرس الحدود في حقيقة الأمر بؤسس لقيام "جيش نظامي" تؤسسه الولايات المتحدة، تحت إمرة جندها المنتشرين في سوريا، والذين يبلغ تعدادهم نحو ألفي عنصر مرشحين للزيادة.
عقب تصريحات تركية شديدة اللهجة للرئيس رجب طيب أردوغان قال فيها: "أقرت أمريكا بأنها أسست جيشا إرهابيّا على طول حدود بلادنا.
وما يقع على عاتقنا هو خنق هذا الجيش الإرهابي قبل أن يولد"، تراجعت الولايات المتحدة الأمريكية في 17 كانون الثاني/ يناير 2018 في تصريحاتها عن تشكيل جيش من مليشيا قوات "سوريا الديمقراطية" في سوريا، لنشرها على الحدود بين تركيا والعراق، نافية أن يكون لديها نية في إنشاء تلك القوة، حيث صرح وزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، بأنه لا توجد نية لدى الولايات المتحدة في "إنشاء قوة تنتشر على الحدود بين سوريا وتركيا"، معتبرا أن المسألة التي أغضبت أنقرة لم تُطرح بالطريقة الملائمة.
وجاءت تصريحات تيلرسون، بالتزامن مع تصريح المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، أريك باهون، إن "القوة الأمنية الحدودية المخطط تشكيلها في سوريا ليست جيشا جديدا، أو قوة حرس حدود تقليدية".
وذكر باهون أن بلاده "تواصل تدريب القوات الأمنية المحلية في سوريا"، موضحا أن التدريب "جاء لزيادة الأمن من أجل عودة النازحين، ولضمان عدم ظهور تنظيم داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) مجددا في المناطق المحررة وغير الخاضعة لسيطرة أحد، وهذا ليس جيشا أو قوة حرس حدود تقليدية".
حسب مركز كارنيجي، قد تكون وحدات حماية الشعب شريكا محوريا لواشنطن، لكنها في الوقت نفسه شريك إشكالي أيضا؛ لأنها الذراع السوري المسلح لحزب العمال الكردستاني الناشط في تركيا، والمدرج على قائمة الولايات المتحدة للمنظمات الإرهابية، والعالق في حلقة من العنف مع تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي الذي لا غنى عنه لجهود الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب، ولأية جهود ترمي إلى وقف التصعيد وفي المحصلة إنهاء الحرب الأهلية السورية، حيث تعمل وحدات حماية الشعب الآن تحت راية قوات سوريا الديمقراطية، وهي مظلة صممت لتيسير تجنيد العرب في صفوفها، وتوفير درجة رمزية إضافية للفصل بين الدعم الأمريكي وحزب العمال الكردستاني..
في حين أن قوات سوريا الديمقراطية توسعت في الشهور الأخيرة لتشمل عددا ملحوظا من المقاتلين العرب، لكنها تبقى عمليا تحت قيادة وحدات حماية الشعب، وتعتمد على الكوادر الأكراد الذين دربهم حزب العمال الكردستاني، والذين يشكلون عمودها الفقري.
فوحدات حماية الشعب وجناحها السياسي (حزب الاتحاد الديمقراطي) هما الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني، وما من احتمال يذكر في أن يغيرا علاقتهما العضوية مع الحزب الأم في المستقبل المنظور.
في هذا السياق، أعلن مجلس الأمن القومي التركي أن "أنقرة لن تسمح بتشكيل ممر (حزام) إرهابي على حدود البلاد"، مشددا على أنه سيتم اتخاذ كافة التدابير اللازمة في هذا الصدد.
وجاء ذلك في بيان صادر عن المجلس عقب اجتماعه برئاسة الرئيس رجب طيب أردوغان في المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة. وقال المجلس إنه يأسف لاعتبار دولة حليفة (في إشارة للولايات المتحدة الأمريكية) لأنقرة؛ "الإرهابيين" شركاء لها، دون مراعاة أمن تركيا، مشددا بقوة على ضرورة جمع الأسلحة المقدمة لتنظيم "ب ي د- ي ب ك/ بي كا كا" دون تأخير.
وتوعد الرئيس التركي بأن بلاده "ستدمر قريبا أوكار الإرهابيين في سوريا" (في إشارة إلى المقاتلين الأكراد)، بدءا من مدينتي عفرين ومنبج، بالريف الشمالي لمحافظة حلب.
لم تكن التهديدات التركية هذه المرة مجردة عن الفعل، ولم تعد تنتظر التطمينات الأمريكية ولا تثق برطانات سوء الفهم والاعتذارات الشكلانية، حيث قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 20 كانون الثاني/ يناير 2018، إن عملية عسكرية في عفرين بسوريا بدأت على الأرض، وسوف تليها عملية أخرى في منبج المجاورة.
وفي إشارة إلى تطمينات أمريكية سابقة بأن وحدات حماية الشعب الكردية ستنسحب من عفرين، قال أردوغان: "لم يتم الإيفاء بالوعود التي قطعت لنا بشأن منبج.
فلا يمكن لأحد أن يعترض على قيامنا بما يلزم". وأكد أن أنقرة ستدمر "خطوة بخطوة" ما وصفه بـ"الممر الإرهابي" الذي أقامته وحدات حماية الشعب الكردية. وعقب كلمة أردوغان، أعلن الجيش التركي في 20 كانون الثاني/ يناير 2018 إطلاق عملية عسكرية في مدينة عفرين، بشمال غربي سوريا، وأطلق عليها اسم "غصن الزيتون".
الإعلان الأمريكي عن تأسيس جيش حرس حدود كشف عن الخطوط الأساسية للاستراتيجية الأمريكية الجديدة في سوريا التي كانت مترددة بين عدة خيارات.
إذ يُركز النهج الجديد الذي تجري مناقشته حاليا على تقسيم سوريا، ويؤكد مؤيدوه على أن سوريا مقسمة بالفعل بحكم الأمر الواقع، وأن على الولايات المتحدة أن تعترف بهذه الحقيقة، وتوقف القتال من أجل إعادة إقامة حدود مصطنعة تعود إلى عهد الاستعمار، حسب معهد دراسات الحرب الأمريكي.
ويرتبط هذا النهج ارتباطا وثيقا بالمناطق الآمنة التي وعد الرئيس ترامب بإنشائها.
ويبدو أن الخطوط العريضة لهذه الفكرة، التي لم تكن واضحة قبل أشهر عندما كتب معدو دراسة معهد الحرب، باتت أشد وضوحا، وهي تأخذ بتوصياتها التي طالبت الولايات المتحدة مساعدة وكلائها (أي المليشيات الموالية لها) على تأمين مساحات جغرافية يمكن للولايات المتحدة بعد ذلك تجميدها وحمايتها بطريقة يمكنها معالجة المشكلة الأساسية.
ويؤكد مسار العمل هذا على الوجود الأمريكي على مسرح الأحداث، بغض النظر عن الجهات الفاعلة الأُخرى، وعلى النية في العمل على بناء قوة عربية سنية شريكة للولايات المتحدة في الحرب على السلفيين الجهاديين، ومنعهم من إعادة ترتيب صفوفهم، والعمل أيضا على إعادة توطين اللاجئين.
تدرك روسيا خطوط الاستراتيجية الأمريكية، ولذلك فقد تخلت مرحليا عن أكراد عفرين بانتظار نهاية عملية إدلب.
وكان الجنرال الروسي ألكس كيم قد عقد اجتماعا، في 4 كانون الأول/ ديسمبر 2017، مع الناطق باسم وحدات حماية الشعب نوري محمود، وأدلى ببيان صحفي أمام العلم الروسي وراية الوحدات.
وتحتفظ روسيا بعلاقات جيدة مع أكراد سوريا، وهي مقتنعة أن تركيا ستنسحب في النهاية.
فمع بداية العملية التركية في عفرين، قررت القوات الروسية الانسحاب من المنطقة، وهو ما يعني فسح المجال للقوات التركية بالتدخل، حيث انسحب عناصر الشرطة العسكرية الروسية من مواقعهم في محيط قرية كفر جنة، شمال عفرين، باتجاه مدينتي نبل والزهراء، الخاضعتين لسيطرة النظام السوري في شمالي حلب.
فمع بداية عملية عفرين، زار رئيس الأركان العامة الفريق أل خلوصي أكار، ورئيس جهاز الاستخبارات التركية هاكان فيدان؛ روسيا، والتقيا بوزير الدفاع الروسي، وذلك للسماح لتركيا القيام بهجمات جوية على منطقة عفرين.
ورغم وجود تفاهمات تركية روسية، إلا أن ثمة خلافات وشكوك على خلاف العلاقات الأمريكية التركية التي يسودها عدم الثقة.
ولا تزال طبيعة المعركة في عفرين وحجمها غير واضحين، لكن الواضح أن تركيا لن تبقى في عفرين، بانتظار تسوية نهائية سوف تفضي بتسليمها إلى النظام السوري في نهاية المطاف، فلا تزال صفقة إدلب محل نزاع.
خلاصة القول؛ أن عملية غصن الزيتون العسكرية التركية في عفرين توضح خطوط استراتيجيتها الدفاعية بمواجهة مخاطر إنشاء كيان كردي، تقوده حركات تعتبرها إرهابية تهدد أمنها القومي، لكنها تحمل رسالة سلام لكافة أطراف التنافس الدولي في سوريا الأمريكي والروسي، فهي تستند في تحركاتها بناء على تفاهمات يشوبها الشك، فتركيا لا تزال تتبنى نهجا أتاتوركيا واقعيا يبتعد عن المغامرة، ولا تقدم نفسها كقوة إقليمية سنية منافسة تحتضن مكونات سنية تتوافر على أهداف سياسية مشروعة.
وبهذا، فإن عملية عفرين ستبقى محدودة ومحددة، ولن تتجاوز حدود السياسات الدفاعية في سوريا، في ظل سوريا باتت مقسمة بين أمريكا وروسيا.
وسوم: العدد 756